الخميس 2023/11/23

آخر تحديث: 12:03 (بيروت)

عميرة هاس تروي رحلة غزاويات جنوباً...بين الجثث والقنّاصة

الخميس 2023/11/23
عميرة هاس تروي رحلة غزاويات جنوباً...بين الجثث والقنّاصة
قوافل النازحين جنوباً (غيتي)
increase حجم الخط decrease
عميرة هاس
(هآرتس، 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)
ترجمة مروان أبي سمرا

آلاف الفلسطينيين الفارين جنوبًا من مدينة غزة، بناءً على أوامر جيش الدفاع الإسرائيلي، يشاهدون مباني مدمرة وجثثاً وأشلاء في الشوارع. لكن الرعب يصل إلى ذروته عند نقطة تفتيش جيش الدفاع الإسرائيلي. وقالت الأمم المتحدة: يبدو أن جيش الدفاع الإسرائيلي يعمل بنظام التعرف على الوجوه من بعد.

أحوال الرعب
"عند تقاطع نتساريم، سمعنا عبر مكبر صوت صرخة تأمرنا بلغة عربية واضحة، بأن نمر عبر كوخ الصفيح. هذا ما كانوا يفعلونه في مخيمات اللاجئين. كنا مئات نسير جنوبًا. رفع بعضنا أيديهم في إشارة الاستسلام. آخرون حملوا رايات بيضاء ولوحوا بها خائفين من التوقف عن السير، ومن تحريك رؤوسهم يمينًا أو يسارًا. شعوري بالذل وأنا أهرب كان من أقسى تجارب هذه الحرب". هذا ما روته ميساء (اسم مستعار) عن رحيلها من شمال غزة.

كان صوتها عبر الهاتف يبدو أقل تعبًا منه في الرسالة الصوتية التي أرسلتها قبل أيام. تتحدث ببلاغة كعادتها. تلعثمت عندما تحدثت عن جثة امرأة رأتها مطروحة على الطريق، عن أشلاء جثث وحقائب وبطاقات ائتمان وسواها من وثائق متناثرة. طوال شهر تقريبًا، رفضت هي وعائلتها مغادرة بيتهم وسط مدينة غزة، رغم أن ابنتيها تحملان جوازي سفر أجنبيين، وسُمح للثلاثة بمغادرة قطاع غزة. تقارير وشائعات عن إطلاق النار والقنابل على النازحين من شمال قطاع غزة، منعتهم من المغادرة. خوفهم من الموت في الطريق فاق ذاك الذي جربوه حين كانت القنابل تنفجر على مقربة من منزلهم، ولجأت الأسرة كلها إلى ممر داخلي في المنزل، أو إلى ممرات الدرج، حيث كانوا أقل عرضة للخطر. لكن أشد ما كان يمنعهم من المغادرة، هو معرفتهم أن والدة ميساء العجوز قد لا تقوى على تحمّل مصاعب الطريق، ولن يُسمح لها بأي حال بالانضمام إليهم في معبر رفح. فالأجداد لا يُسمح بالانضمام إلى أحفادهم الذين يحملون جنسيات أجنبية.

وقالت ميساء: "أمران أقنعاني بترك المنزل سريعًا يوم الإثنين الماضي: دوي انفجار هائل، تبعه سكون كامل لثانية أو اثنتين، ثم تعالت صرخات أطفال، فأدركنا أن أشخاصًا قتلوا في منزل جوار منزلها. ثم تلك الرسائل التي وصلت بالإنكليزية إلى العاملين في منظمات الإغاثة الدولية، وأرسلتها إدارة التنسيق والارتباط الإسرائيلية". أنا من كنت أرسلت لها هذه الرسائل حوالي الساعة السابعة صباحًا من ذلك اليوم، قبل سقوط تلك القنبلة قرب منزلهم. جاء في الرسالة الأولى: "إلى سكان مدينة غزة، يعلمكم الجيش مرة أخرى، اليوم (الاثنين) أن تقاطع صلاح الدين، جنوبي غزة، سيفتح للمشاة والسيارات من الساعة 9 صباحًا حتى 4 مساءً. لا تستسلموا لحماس. بقاؤكم في المدينة خطير للغاية". وجاء في الرسالة الثانية أن الجيش سيكف عن القصف في منطقة رفح بين الساعة العاشرة صباحًا والثانية ظهرًا في النهار نفسه، ليتيح للمدنيين استخدام طريق صلاح الدين للانتقال إلى المناطق الأكثر أمانًا في جنوب القطاع". وورد في الرسالة أن الجيش الإسرائيلي سيتخذ الإجراءات اللازمة للدفاع عن قواته في حال وقوع أي أعمال عدائية موجهة ضده من هذه المناطق".

وفي الرسالة الأخيرة ورد: "من ليس لديهم وقت لإخلاء منطقة الشاطئ إلى مكان آمن، عليهم المغادرة - لسلامتهم - اليوم (الإثنين) من الساعة 10 صباحًا حتى 6 مساءً، عبر شارع يوسف العتمة، ومن هناك إلى شارع صلاح الدين".

لتضع ميساء حدًا لترددها، قررت والدتها البالغة من العمر 82 عامًا مغادرة المنزل مع أحد أحفادها والتوجه شمالًا إلى مخيم جباليا للاجئين. قالت: "بدعم من ابن أختي، تمكنت من السير عشرات من الأمتار إلى زاوية الشارع". وهناك استقبلتهم سيارة رتّبها مسبقًا ابن الأخت. كانت الأم هناك مع لاجئين تعود أصولهم - مثلها - إلى قرية دمرا، التي كانت في فلسطين ما قبل عام 1948. "شعرت بالارتياح معهم"، قالت ميساء وأضافت: "ظل أشخاص كثيرون في جباليا، رافضين أو غير قادرين على الانصياع لأوامر الجيش بالفرار جنوبًا".

أجساد عارية
في الساعة 9:30 صباحًا غادرت ميساء منزلها مع ابنتيها: يافا (14 عامًا) وبيسان (20 عامًا). حملوا أكياسًا صغيرة، وضعوا فيها زجاجات مياه وبطاقات الهوية وجوازات السفر، وما لديهم من مال. قالت لي ميساء: "مشينا بضع مئات من الأمتار إلى شارع عمر المختار. ومنه نقلتنا سيارة إلى ساحة الكويت. دفعنا 100 شيكل (27 دولارًا) مقابل ذلك. ومن هناك مشينا قليلًا، ثم ركبنا عربة يجرها حصان، فنقلتنا مسافة كيلومتر واحد تقريبًا، ودفعنا لسائقها 15 شيكلًا (4 دولارات). ثم مشينا ربما نصف كيلومتر آخر، فوصلنا إلى تقاطع نتساريم". قالت نتساريم، رغم مرور 18 سنة على إخلاء المستوطنات الإسرائيلية، وصار اسم التقاطع رسميًا: الشهداء.

انضوت وبناتها في قافلة تضم حوالي 700 أو 800 شخص. قالت ميساء إنها رأت سيارات محترقة، لكنها لا تتذكر أنها أبصرت مباني مدمرة. بعد مسافة قصيرة، فجأة انتبهت إلى أنها تمشي في طليعة القافلة، بينما ابنتاها في الخلف بعيدًا، فوقفت لتنتظرهما. قالت: "كان الناس خائفين. طلبوا مني مواصلة السير. فهناك شائعات تقول إن الجنود يطلقون النار على أي شخص يدير رأسه يسارًا أو يمينًا، وعلى أي شخص يتوقف فجأة. ولم أتمكن من معرفة ما إذا كانت شائعات، أم أن الأمر حدث فعلًا وشاهده الناس".

لكنها وقفت وانتظرت حتى أصبحت ابنتاها إلى جانبها. بطرف عينها أبصرت تلة رمل عند التقاطع، ودبابات تربض على قمتها. وفي وقت لاحق رأت كوخ الصفيح الذي كان على الجميع أن يمروا عبره. بعد ذلك بيومين، في 15 تشرين الثاني، ذكر تقرير يومي نشره مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، أن حاويتين وضعتا عند التقاطع، كنقطة تفتيش غير مأهولة، فيما يستخدم الجنود من بعيد مكبرات صوت لتوجيه السكان الذين أُجلوا، كي يمروا عبر الحاويتين.

تتذكر ميساء: "كنا نقف على ما كان أسفلتًا في السابق، وأصبح رمالًا. أمام كوخ الصفيح وقف الناس في طابور طويل، حاملين بطاقات هوياتهم أو جوازات سفرهم. دخلت إلى الكوخ. حاوية حديد قسمت إلى نصفين. كلهم عبروا نصفه الغربي. لكنها غير متأكدة من وجود كوخ أم اثنَين. قالت: "كنت قلقة من أن أُفصل عن ابنتيّ، فلم ألاحظ التفاصيل. يتسع الكوخ لأشخاص ثلاثة ينتظرون، لا أكثر. الآخرون ينتظرون في طابور طويل في الخارج".

من على كومة الرمل القريبة، يدعو الجنودُ الناسَ عبر مكبرات الصوت، لدخول الكوخ والخروج من جانبه الآخر. "سمعنا نداءات مثل: أنتِ من ترتدين المنديل الخفيف، تعالي إلى هنا. أنت، الرجل العجوز الذي يحمل العصا، هيا إلى هنا". لم يدرك الناس إلى أين عليهم أن يذهبوا. الصرخات في مكبر الصوت عالية واضحة: أيديكم مرفوعة، اقتربوا. أعتقد أن البعض طُلب منهم خلع ملابسهم".

دم على وجه أصفر
أثناء عبور نقطة التفتيش، سمعت ميساء وابنتاها هدير الطائرات المقاتلة فوقهن. وروت: "اعتقد الجميع أن الطائرات ستقصفنا في أية لحظة. مكبر الصوت يصيح طوال الوقت. مرعب كان اختلاط صرخاته بهدير الطائرات. وكان الخوف مرئيًا في كل وجه. عندما صرخ مكبر الصوت: هيا، اقتربي، مناديًا فتاة أمامنا، أغمي عليها. آخرون صرخوا: احملوها، احملوها، لئلا يطلقوا النار عليها. اختها رفعتها. يافا، ابنتي، أخافها المشهد. رأيت دمًا يسيل على وجهها المصفر. قلت لها: ضعي رأسك على كتفي، أنا معك لا تخافي. ابنتي بيسان أمسكت يد أختها، ورفعت يدها الأخرى عاليًا، لئلا يظن الجنود في الدبابة أو خارجها أنها تنوي فعل شيء ما".

جاء دور النساء الثلاث لدخول الكوخ. "رفعنا أيدينا بالوثائق الثبوتية - قالت ميساء - لكن يافا لا تملك بطاقة هوية بعد، فرفعت جواز سفرها. ثم أُمرنا بالتوقف. لديهم على الأرحج وسائل للتحقق من الوثائق من بعد". يقول تقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية: رُكب نظام تتبع عند حاجز الحاويات. يافا خرجت أولًا من الحاوية إلى المرتفع الرملي، على الجانب الآخر من نقطة التفتيش. وقالت ميساء: "لا أتذكر ما إذا كان له سقف". على الأرجح، لأنها فوجئت بسماع الصرخة عبر مكبر الصوت يسأل ابنتها باللغة العربية: "أنت، ذات القميص الأخضر، هل تتحدثين الإنكليزية؟".

ميساء - التي قدرت أن ابنتها أومأت برأسها تأكيدًا - خرجت من الحاوية المعدنية لتنضم إليها. سأل الصوت: هل أنت والدتها؟ أومأت برأسها. ثم خرجت بيسان ووقفت إلى جانبهما. أمرهن مكبر الصوت بتوجيه أنظارهن نحوه. رأوا جهازًا يشبه كاميرا. ووفقاً لتقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، على الأرجح أن يكون ذلك نظام التعرف على الوجوه.

في تلك اللحظة فقط - عندما حولن أنظارهن إلى الجانب الآخر - لاحظن حفرة واسعة على جانب من كومة الرمل. قالت ميساء: "لقد حفروا مستويين في الرمال. في الحفرة حوالى 30 شخصًا، رجالًا ونساءً. أدركنا أنهم معتقلون. عبر الكاميرا، تمكنت من رؤية الدبابات، ومركبة للصليب الأحمر تقترب، وجنود يقفون على التل".

"سأل الجندي يافا بمكبر الصوت: هل تريدين الانضمام إلينا أم تريدين الاستمرار؟"، وأضافت ميساء: "لم تفهم ابنتي ما يقصده الجندي. أشرت بيدي أننا متجهون جنوبًا. قالت يافا إننا نريد الاستمرار. لا أدري إن كان سمعنا، لكنه قال: واصلوا. الآخرون الذين سمعوه كانوا خائفين أيضًا، ولم يفهموا معنى كلمتي الاستمرار أو الانضمام إلينا. أظن لأننا كنا النساء الوحيدات السافرات في الطابور، تحدث إلينا بالإنكليزية. لا أعرف ما إذا كان الجندي يسخر أو فكر بجدية في أننا قد نرغب في الانضمام إليهم".

جثة امرأة وأشلاء
بعد ذلك، بدأ قلقهن يهدأ. لكن سرعان ما حل مكانه شعور بالضيق عندما أدركت ميساء وابنتاها أنهن لا يعرفن متى يعدن إلى منزلهن، وإن كن سيعدن إليه أصلًا في يوم ما، وهل سيبقى منه شيئًا؟

على مسافة قصيرة من نقطة التفتيش، أبصرن أشلاء بشرية مبعثرة على جانب الطريق. وشاهدن أيضًا جثة امرأة. ومن وضعية رأسها، استنتج الناس أنها كانت تتجه نحو الشمال. ربما غيرت رأيها وتركت صف النازحين جنوبًا، واتجت عائدة نحو الشمال. احترامًا لكرامتها، تجرأ أحدهم على تغطيتها ببطانية.

استمرت النساء الثلاث ماشيات مسافة كيلومتر تقريبًا، حتى وصلن إلى مكان تقف فيه عربات تجرها خيول. ونقلتهم عربة إلى دير البلح.

أرادت يافا الاتصال بصديقة لها لجأت إلى مدرسة في النصيرات، وقتلت قنبلة كثرة من أفراد عائلتها. لكن شبكة الهاتف كانت معطلة. قالت ميساء إن بعض شبان كانوا يوزعون الماء والبسكويت والتمر على مدخل النصيرات. وهناك عثرن على سيارة أقلتهن إلى منزل أصدقاء في خان يونس. وقالت أيضًا: "في الساعة 13:30 وصلنا إليهم، وقال الجميع إننا محظوظات. توقعوا أننا ما كنا لنصل قبل حلول المساء. يستضيف أصدقاؤنا حوالى 70 شخصًا آخرين دمّر القصف منازلهم".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها