الإثنين 2023/11/20

آخر تحديث: 14:27 (بيروت)

هابرماس ضد هابرماس... غزة تُسقط الفيلسوف

الإثنين 2023/11/20
هابرماس ضد هابرماس... غزة تُسقط الفيلسوف
هل هوية كألماني تجعله أسير الماضي الذي لا يمضي؟
increase حجم الخط decrease
أصدر يورغن هابرماس، الفيلسوف التسعيني وأحد أهم علماء الاجتماع والسياسة في اللحظة الراهنة -ومعه نيكولا ديتلهوف أستاذة العلوم السياسية، ورينر فوريست الفيلسوف المعروف، والأستاذ كلاوس غونتر- بيانًا حول ما يجري في قطاع غزة، دانوا فيه ما وصفوه بـ"المجزرة التي ارتكبتها حماس ضد إسرائيل بنية إبادة الحياة اليهودية بشكل عام". يقول هابرماس، ومن معه في بيانهم: "إنّ الوضع الحالي الذي تسبّبت فيه وحشية الهجوم غير المسبوق الذي شنّته حماس، وردّ فعل إسرائيل عليه، أفضى إلى سلسلة من المواقف الأخلاقيّة والسياسيّة والمظاهرات الاحتجاجية". لقد قفزَ هابرماس وصحبه في الزمن ليعظنا ويقول: "إن هناك بعض المبادئ التي يجب ألا تكون محل خلاف، وهي مبادئ تشكل أساسًا لتضامن مُفَكَّرٍ فيه ومُتَعَقَّلٍ مع إسرائيل واليهود واليهوديات في ألمانيا"...

هذا الكلام المستغرب من هابرماس، صاحب مفهوم "الفضاء العمومي" وعاشق الجدل ورافض جائزة زايد 2021، أثار ردود أفعال كثيرة. فسماها الزميل أسعد قطان "سقطة الفيلسوف"، وكتب الناقد السعودي محمد العباس "هابرماس.. الوعي المنشق على نفسه"، قائلاً أنه من "ذلك المنطلق المتعامي عن الحقائق التاريخية والسياسية والأخلاقية أيد بقوة العدوان الإسرائيلي وأكد على التضامن التام مع إسرائيل واليهود بوجه عام"... وكتب الصحافي أحمد الشيخ في موقع "الجزيرة": "تهافت هابرماس والسقوط الأخلاقي"، قائلاً: "ويسقط هابرماس مذعورًا، كما سقط غيره من كبار المثقفين والفلاسفة عبر التاريخ حين انسلخوا عن كل ما بشّروا به من مبادئ وقيم تشدقوا بها في كتبهم ومحاضراتهم، ورددها المبهورون بهم حتى أصبحت في مصاف الكتب السماوية، لا يخرج عنها إلا هالك ولا يتنكّبها إلا جاهل"...

وكتب الروائي سامح عسكر في تويتر: "هابرماس يقع في خطيئة هيدغر نفسها في دعمه للنازية وجرائم هتلر". 

وكتب الباحث المغربي، يونس الهديدي في الفايسبوك، سائلاً: "هل خان فيلسوف أوروبا الأعظم إنسانيته؟"، وأجاب: "يظهر موقف هابرماس ومن معه إزاء ما يقع في غزة موقفًا مهلهلًا متهافتًا لا ينهض على أية آلية حجاجية لها اعتبارها، وهذا لم يعوِّدنا عليه عقل يورغن هابرماس الدقيق. أما اعتماد مسألة الهولوكوست بوصفها مُبرّرًا لموقف يبدو في ظاهره حاملًا لنزعة إنسانويّة لدى الفيلسوف من جهة مرافعته الضمنيّة عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، فتتبدّى في عمقها تسويغًا للاحتلال، وهذا لا يليق بفيلسوف في حجمه. أعتقد أن تشومسكي أكثر وعيّا بقضايا التحرر التي يطرحها الشرق الأوسط من هابرماس  - الذي حضر بوصفه موقفًا هذه المرة -  كعقل  لا يستطيع استعاب أن ضحية النازية بالأمس هي ذاتها نازية صهيونية مضادة لكل ما هو إنساني في راهن الإنسانية".

ودوّن الكاتب ادريس الكنبوري: "دائماً ما نعيش وهماً عظيماً كنخبة عربية؛ وهو أن ما يكتبه وما يفكر فيه الفلاسفة والمثقفون الغربيون يتعلق بنا نحن أيضا؛ فنصنع منهم أصناماً ونمجدهم؛ بينما هم يفكرون في مجتمعاتهم من داخل ثقافتهم. وقد عرف هابرماس بأنه من أكبر المدافعين عن الحداثة والتنوير؛ وعن التواصل والأخلاق؛ وله كتاب بهذا العنوان نفسه؛ لكن عندما جاءت التجربة سقط في ميدان التواصل والأخلاق. هابرماس الذي عمّر طويلاً عاش جميع مراحل القضية الفلسطينية؛ من قتل وتهجير وتدمير؛ لكنه لم يسبق أن عبّر عن دعمه للفلسطينيين بشكل صريح؛ واليوم يدافع عن إسرائيل وعدوانها بل يرى أن وجودها "قيمة أساسية" fundamental value. لسنا نشك إطلاقا أن ما يحصل في فلسطين سيغير الكثير من القناعات والأفكار والمسلّمات؛ وسيحدث فرزاً ثقافياً. المثقف الغربي ابن ثقافته وبيئته ودينه؛ ولن يغير جلده أبداً؛ قد تجد نفسك معه فقط في ما أنت تتفق معه فيه؛ لكنك لن تجده أبداً معك في ما تريد أن يتفق معك فيه".

نحسب أن كلاماً كثيراً سيقال حول موقف هابرماس، ولطالما انزلق الفلاسفة إلى أفكار ومواقف تحدث صدمة سلبية لدى متابعيهم، من تأييد سارتر لإسرائيل في حرب حزيران 1967، إلى اعجاب ميشال فوكو بالثورة الخمينية.

في الواقع، ومع أن موقف هابرماس الجديد يظهر فصاميته مع ذاته ويسقطه اخلاقياً، لكن من يراجع مسار الفكري، يجد أنه كثيراً ما أظهر للعيان أنه مكبّل أو مقيّد في الموقف من اسرائيل، ينظّر كثيراً، لكن حين يصل الكلام إلى حدود إسرائيل يبحث عن مبررات تناقض تنظيراته. وهذه المرة كان صوتاً صهيونياً وليس فيلسوفاً نقدياً، هل هويته كألماني تجعله أسير الماضي الذي لا يمضي؟ مرة سئل عن قصيدة للروائي النوبلي، غونتر غراس، نشرت العام 2012، تقول أو تفيد بأن الطاقة النووية الإسرائيلية تهدد السلام العالمي، فقال هابرماس لصحيفة هآرتس الإسرائيلية، في مقابلتها معه في العام نفسه، بأنه "لا يفهم ما الذي جعل غراس يكتبها بأسلوب غير واع، ولا متوازن وهو ليس كذلك، وكأنه معاد للسامية. هناك أشياء لا ينبغي على الألمان من جيلنا قولها". وقد أثار هذا حفيظة كاتب إسرائيلي اسمه عومري بوهم، فنشر مقالاً مطولاً في صحيفة "دي تسيت" الألمانية، وجعله على شكل رسالة لهابرماس بعنوان "إفتح فمك!" يدعوه والمفكرين الألمان لنقد السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، ويدعو الصحف الألمانية للتوقف عن تصرفاتها المضحكة، والتي حددها بأنها عندما تريد توجيه نقد ما لإسرائيل تستكتب كتاباً إسرائيليين! وقال بوهم إنه يعتقد حقاً أنه يوجد في ألمانيا "قمع للانتقاد العلني للدولة اليهودية". قمع يفرضه شخص ما في ألمانيا ويؤيده هابرماس.

ويقول المؤرخ العراقي سيار الجميل: "تسببت ظاهرة الهولوكست المريرة عقدة خوف رهيبة لدى هابرماس، فدافع باستماتة عن مشروع ما بعد القومية، وهو مشروعٌ يتمثل بتطوير أشكال جديدة، مثل الاتحاد الأوروبي خارج الدولة القومية، وتعزيز القانون الدولي بذلك... وهابرماس لم يُعادِ الصهيونية، واعتبرها نتاج حضارة أوروبية، كما وصفها في محاضرته في قاعة المحاضرات في الأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والإنسانيات في القدس العام 2012، وبدلاً من مجادلته القرائن والحيثيات التاريخية الخاصة بالعرب الفلسطينيين، والوقوف ضدّ إسرائيل وسياساتها، دعا كلّ الاكاديميين اليهود الألمان إلى العودة إلى وطنهم بعد فرارهم منه، مستفيداً من عودة بعضهم إلى وطنهم الأم، وكان يحثّ اليهود الأوروبيين على الذهاب إلى فلسطين، كي تصبح الدولة اليهودية ضرورة تاريخية".

المحنة الآن أن موقفاً مثل موقف هابرماس سيجر كثير من الكتّاب والكتبة، إلى دلف مقالات تعميمية واعتبار كل من مرّ في مدرسة فرانكفورت ينتمي الى الصهيونية ويتعاطف مع اسرائيل، ووسط هذه المعمعة اللاخلاقية ننتظر رأي من كتب عن "هابرماس وشرف الثقافة"، يوم رفض الفيلسوف الألماني جائزة الشيخ زايد 2021.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها