الجمعة 2023/11/10

آخر تحديث: 14:48 (بيروت)

محمّد مرعي بين الرحابنة وسامية جمال...الفنان القبضاي المغمور والمنسيّ

الجمعة 2023/11/10
increase حجم الخط decrease
لا ينتبه كثرٌ إلى أن عدم توثيق الذاكرة الغنائية والفنّية والثقافية، ساهم في نسيان أو تهميش الكثير من المطربات والمطربين (والكتّاب والمسرحيين والشعراء) الذين كان لها دورهم البارز في زمانهم، حتى المطربين المنسيين أنفسهم، يشاركون في تعميق النسيان، سواء من خلال الاعتزال أو التقاعد أو الابتعاد عن الإعلام والميديا، وحتى من خلال الهجرة البعيدة إلى الأقاصي، ثم الانقطاع عن الجمهور والمحبين.

هذا الكلام ينطبق على الفنان اللبناني البرجاوي البيروتي، محمد مرعي (السعيدي) المولود في برجا -الشوف(1926 – 1989) الذي صدر عنه أخيراً كتاب "محمد مرعي... الفنان المغمور"(*) للأب بديع الحاجَ، عميد كليّة الموسيقى في الكسليك، قدمه الشيخ جمال بشاشة الذي يستذكر حضور الفنان في بلدته وبلاده، وهو من توثيق أحمد بشير سعيفان، رئيس جمعيّة العطايا البرجاويّة، الذي بقي على مدى سنوات يبحث في الخزائن والمحفوظات عن خميرة ووثائق ومجلات فنية وأفلام في خدمة هذه الكتاب.

والكتّاب سطّر حياة محمد مرعي من بداياته الفنيّة في منتصف الأربعينيّات حتى رحيله مهاجراً في أميركا العام 1989، ويوثّق الأعمال التي قدّمها الفنان المغمور الذي صبَغت حياتَه شخصيةُ "القبضاي" وشارك فيها مع فيروز والأخوين رحباني في مسرحيّات: بيّاع الخواتم، وفخر الدّين، وهالة والملك، ودواليب الهوا مع صباح، إضافة إلى العديد من السّهرات والبرامج التلفزيونيّة. ويسجّل الكتاب رحلة محمد مرعي في الإذاعات العربيّة وبطولته لفيلم "أول غرام" أمام الفنانة سامية جمال العام 1956.


ومحمد مرعي السعيدي "الذي لم يُعطَ حقه لا في حياته ولا بعد مماته" كما يقول الأب بديع الحاج، مطرب ومغن وممثل لبناني اشتهر بطربوشة وخيزرانته. كان والده حائكاً وصياداً. انتقلت العائلة في الثلاثينيات من القرن العشرين إلى بيروت واستقرت في منطقة البسطة، الحي البيروتي العتيق. نشأ في بيئة فقيرة واضطر إلى ترك المدرسة، بعد وفاة والده، عمل في أكثر من مكان، في شركة في الدورة، وفي مطار بيروت غداة تأسيس شركة طيران الشرق الاوسط، وبينما كان يعمل في النهار، كان يقف ليلاً في مسارح ملاهي محلتي الدورة ورأس بيروت ليغني فيها أغاني عبد الوهاب وفريد الأطرش، حتى استطاع أن يصبح مطرباً. وهو تعلّم الغناء على يد أحمد علوان، عازف البزق والقانون في الإذاعة اللبنانية، وكانت أول أغنية ينشدها أمام الميكرفون "يا راكبين الجمال".


في عمر العشرين، أي سنة 1946، ولد محمد مرعي ثانية كما يقول هو شخصياً، لكن في الوسط الفنّي، وكان ذلك حين اشترى أغنية "حول يا غنّام" من أصحابها إيليا متني وأنيس الخال ملحّنيها، وجوزف زغيب ناظمها، وذلك بمبلغ خمسين ليرة، وحوّل هذه الأغنية إلى أوبريت وغناها مع المطربة أحلام رزق، على مسرح "التياترو الكبير" في وسط بيروت، ولاقت هذه الأغنية نجاحاً كبيراً وهذا ما شجعه على احتراف الغناء.  


سافر صاحب أغنية "تسرح وتمرح" إلى فلسطين العام 1947 ليتوظف في إذاعة القدس كفرد من أفراد الكورس، لكن يحيى السعودي، قائد الفرقة الموسيقية في الاذاعة، أعجب بصوته وقدمه كمطرب. وبعدها سافر مع فرقة الفنانة ناديا شمعون الملقبة بـ"عروس المسرح" إلى تركيا، وبقي سنة ونصف السنة، وعاد إلى لبنان ليقدمه عبد الكريم كريدية في مسرح فاروق في وسط بيروت، لصاحبه الفنان عفيف كريدية، حيث بقي مدة ثلاث سنوات بلا انقطاع، وقد اشتهر بالمواويل، خصوصاً الموال البغدادي.

قال الموسيقار توفيق الباشا، يوم كان رئيس دائرة الموسيقى في الإذاعة اللبنانية: "في الموال البغدادي، لم نكن نثق إلا بأداء واحد من اثنين، صابر الصفح أو محمد مرعي"، وذلك أن الموال البغدادي يتطلب الصوت الجميل والأداء المتمكن من فنون الغناء والمعرفة الوافية بالمقامات الموسيقية ليستطيع المطرب التنقل بينها بمهارة ومن دون عناء.


في منتصف الخمسينيات، سافر إلى مصر لتصوير فيلم "أول غرام"، وكان يهدف إلى تحقيق حلم راوده وهو الظهور في الشاشة الكبيرة. وكانت الراقصة سامية جمال التي قطعت علاقتها بفريد الأطرش، تفتش على صوت يحل محل صوت فريد، بل ينافسه. وسمعت بالصوت الذي قيل لها إنه سينافس مطربي عصره إذا ظهر في الشاشة... وحققت سنوات الإقامة في القاهرة لمحمد مرعي دور البطولة كممثل ومغنٍ في فيلم "أول غرام"من اخراج نيازي مصطفى، وقدم في الفيلم أغنية "على شوق وحب" و"لأ يا حلو لأ" من كلمات مرسي جميل عزيز وألحان كمال الطويل. وحققت الأغنية شهرة واسعة في مصر. ويتردد أنّها أعجبت الراحل عبد الحليم حافظ، وعاتب يومها صديقه كمال الطويل بالقول: "إنت ازاي تعطيه اللحن ده". وعلى هذا، فإن احتدام المنافسة في مصر الخمسينيات صعّب الأمور على الصوت اللبناني الشاب.

نجح محمّد مرعي في مجال الفن العاطفي والشعبي، حتى أصبح نجم الصالات والمسارح البيروتية والشامية والحلبية... شارك في مسلسل عرض في "تلفزيون لبنان" العام 1965 بعنوان "قسمة ونصيب" مع هدى وإيلي شويري وجوزف ناصيف. وأدى دور "يوسف الدبشة" تاجر الأنتيكا، وشهد المسلسل نجاحاً وغنى فيه "ع باب الحلوين" ومع بزق مطرا محمد "بيلبقلك شك الألماس".

 
 
غنى مع فيروز في "هالة والملك" (1967) "بتمشو شوي شوي" ومع صباح ونصري شمس الدين موال "يا نخلة بالفلا" في "دواليب الهوا" (1965). واستمر يسجل الأغاني والإسكتشات لأشهر الملحنين في الإذاعات والتلفزيونات في لبنان والعالم العربي. ذات مرة قدمته هدى بأنه "قبضاي ضيعة الأغاني" مؤدياً مع المجموعة: "إنت قبضاي / معلوم قبضاي/ مين هيدا فلان/ لك بده رضاي/ هيدا بيوقف عشرين مرة لمخدومك/ نحنا جوه وهوه برا/ يكون بمعلومك / يا بعيش قبضاي / يا بموت قبضاي/ قبضاي قبضاي معلوم قبضاي".

تميّز محمد مرعي، إضافة إلى صوته الشجي، بخفة الظل في حياته الخاصة والحضور المحبب في أغانيه مما حدا بالأخوين رحباني لإختياره لأداء دور "شيخ المينا" في مسرحية "أيام فخر الدين" التي قدمت ضمن مهرجانات بعلبك الدولية العام 1966.

 

في عز عطائه العام 1974، هاجر محمد مرعي إلى القارة الأميركية، "مبتعداً عن جوّ فنّي عاكسه وحاربه" ليجول العالم، ويشق لنفسه طريقاً جديداً، وفي طريق عودته من رحلة فنية قام بها إلى البرازيل، مرّ في مدينة لوس أنجليس في الولايات المتحدة الأميركية، وهناك وجد ملهى ليلياً معروضاً للبيع، فاشتراه وأطلق عليه اسم "أبو نواس" وصنع له ديكوره بيديه، وجعل منه الملهى الوحيد الذي يقدّم برامج عربية كاملة، حتى استضاف زميله وديع الصافي، وهو في عمله في الملهى لم يكن يجيد الانكليزية. وتوفي في مهجره العام 1989.

(*) صدر عن جامعة الروح القدس في الكسليك.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها