الأربعاء 2023/11/01

آخر تحديث: 13:11 (بيروت)

كيف صار غصن الزيتون أنبل من البندقية؟

الأربعاء 2023/11/01
increase حجم الخط decrease
ربما غنى كثيرون قصيدة نزار قباني، "أصبح عندي الآن بندقية"، لكني سمعتها أولًا من مي نصر، قبل مغنيتها الأصلية أم كلثوم. غيّرت نصر، التاريخ منذ النكبة، ليناسب صيغتها الآنية حينما أدّت الأغنية؛ "خمسون (عشرون) عامًا وأنا أبحث عن أرض وعن هوية". مفارقة بائسة ألا يختل الوزن أو الإعراب مع كل ألفاظ العقود؛ ستون، سبعون، ثمانون، تسعون... وكأن الوضع الفلسطيني كتب عليه الأبدية وما أنقذه إلا اختلال الإعراب إن أُبدل بالعقد المليون: مليون عامٍ.

حضرتُ معرضًا للكاريكاتير نظمته جمعية محبي الفنون الجميلة في القاهرة، بالتعاون مع الجمعية المصرية للكاريكاتير، تحت عنوان "غزة في قلوبنا". ورغم أنه عُقد على عجل، بحسب منظميه، فإنه اتسع لعشرات اللوحات والفنانين، من عقود خلت وأخرى معاصرة، وإن بدا عصياً على المتلقي أن يكتشف ذلك، لشدة التطابق بين موضوعاتها، لولا أن الرسام مصطفى حسين الذي غيبه الموت قبل تسع سنوات شارك بلوحتين، ظهر جورج بوش في إحداهما وفي الأخرى أرئيل شارون!



منذ نكبة 1948، والعرب يتناقلون في ديوانهم الرسمي سردية واحدة عن فلسطين: اغتصبت إسرائيل الأرض ثم احتلتها مدعومة بالقوى العظمى، إنكلترا ثم خليفتها أميركا. إسرائيل كاذبة. تنتهك إسرائيل الفلسطينيين يوميًا، ولا تجد من مقاومة إلا الإدانة! وليس في تلك السردية أي مجاز عن مأساة فلسطينية أبدية، ليس في تلك السردية غير دلائل القهر والاستبداد والخنوع.

يفترض بفن الكاريكاتير إثارة الأسئلة، لكن هذا المعرض، الذي لا ينفرد وحده بتلك السمة، لا يصدّر سوى الإجابات، حتى في لوحات المشاركين من غير العرب. هناك علم فلسطين، وطفل شهيد، وإعلام غربي منحاز، وعالم عارٍ، وإسرائيليون في صورة كلاب أو مصاصي دماء. والصورتان الوحيدتان للمقاومة، بندقية تخرج من فوهتها حمامة، وطفل فلسطيني ملثم بالكوفية يحمل في يد علم بلاده وفي الأخرى نبلة، والأخيرة للمفارقة رسمها صربي! فيما يغيب السؤال الرئيس: لماذا تستمر معاناة فلسطين منذ 75 عامًا؟

يغيب ذلك السؤال، ضمن أسئلة أخرى لا تقل عنه أهمية: كيف صار غصن الزيتون أنبل من البندقية في وجه المحتل؟ لماذا اختُصرت القضية الفلسطينية في هويتها الدينية؟ كيف ضاع الاستقلال في سبيل الخيار المُتمَنّى لحل الدولتين (والتمني في اللغة العربية هو طلب حصول الشيء الذي يصعب أو يستحيل حدوثه)؟ "هي الجيوش العربية مش هتيجي"(1)؟

ربما لا ألوم هؤلاء الفنانين. فناجي العلي الذي كان يطرح الأسئلة، اغتالته الحكومات العربية نفسها، إما بالتواطؤ أو التخاذل. وربما أدينهم في الوقت نفسه. فالفنان، أي فنان، لا عمل له غير التحريض، وأكثر الأعمال ثورية هو تفكيك السرديات السائدة.

منذ اتفاقية كامب ديفيد التي عقدها أنور السادات مع مناحيم بيغن بمباركة جيمي كارتر، والنظام المصري يحرص على تحييد الشعب عن التطبيع، طالما استطاع تفريغ شحنة غضبهم في الخطر الذي يكنه العدو المتربص، وطالما استطاع في الوقت نفسه استخدام الغضب الشعبي لإرهاب ذلك العدو وإشعاره بأنه قد ينقلب في أي لحظة على ذلك "السلام البارد"، بوصف السادات نفسه. ولم يحفظ الشعب من السقوط في مذلة التطبيع، المثقفون الذين يحلو لبعضهم التشدّق بأن القوة الناعمة هي حائط الصد ضده، بل سردية النظام التي رعاها تحت قوسي غصن الزيتون، وأطلق اليد فيها للإسلام الراديكالي الذي يدعو ليل نهار على "اليهود وأذنابهم".



قبل أسبوعين، دعا النظام المصري إلى مظاهرات حاشدة ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، وطالب الرئيس السيسي الشعب بتفويضه للدفاع عن أمن مصر القومي (وكأنها ليست إحدى مهام وظيفته)، وخرج المواطنون من كل مسجد عقب صلاة الجمعة قبل الماضية يهتفون ضد دولة الاحتلال ويبايعون الرئيس. وحينما حاد بعضهم عن النص، ووصل إلى ميدان التحرير، لاحقتهم الشرطة. ولما قرروا من تلقاء أنفسهم، ومن دون دعوة رسمية، معاودة التظاهرة يوم الجمعة الفائت، لاحقتهم الشرطة أيضاً.

فرّغت سرديات النظام، القضية الفلسطينية، من مضمونها، إلا عنوانها الرئيس، أن الشعب الفلسطيني يعاني، وأن أولى القِبلَتين وثاني الحرَمين يدنسه اليهود الذين "لا يقاتلونكم جميعًا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر"(2)، وأنه مهما طال الزمان فلا بد لدولة اليهود أن تنهزم في حرب أبوكاليبسية سينطق فيها "الحجر والشجر يقول للمسلم: يا عبدالله، تعال هذا يهودي تعال فاقتله"(3).

هل فكك الفن تلك السردية؟ هل خرج عنها أي من رسامي الكاريكاتير في معرض "غزة في قلوبنا" -طالما كان ذلك العرض هو محفز الكتابة- وغيرهم من أصحاب الدوريات الثابتة في الصحف؟ ليس ثمة صورة واحدة تقول شيئًا آخر: الحمامة والعلم ومصاصو دماء الأطفال والعالم ذو المؤخرة العارية.

إن اللغة مهما بدت راسخة، يسودها الناطقون بها، يكسرون قواعدها ويعيدون بناءها من جديد كفعل يومي. بينما يُعَدّ من يخرج على قواعد العربية ويسعى لخلق نص جديد، تجريبياً رائداً، وهي مفارقة لا تكشف سوى فداحة الاستبداد الذي يعانيه الناطقون بها، وتزيد من وطأتها، أن تنقذ القواعد النحوية الراسخة، في قصيدة نزار قباني، القضية من مجاز قاتم، ولا ينقذه المعنيون بالخروج عليها.
_______________

(1) لازمة حوارية لشخصية المواطن السكير، من فيلم "ناجي العلي"، إخراج عاطف الطيب وتأليف بشير الديك، وإنتاج نور الشريف وبطولته. وهو فيلم طاوله مقص الرقيب حتى أتلفه، قبل أن يمنع عرضه في الكثير من الدول العربية، وتعرض بسببه نور الشريف لحملات انتقاد واسعة في الصحف المصرية.

(2) الآية 14 من سورة الحشر.

(3) حديث ضعيف منسوب إلى النبي محمد.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها