الأحد 2023/10/29

آخر تحديث: 07:28 (بيروت)

العنف في النصوص التوراتيّة: هل من جواب؟

الأحد 2023/10/29
العنف في النصوص التوراتيّة: هل من جواب؟
الاستيلاء على أريحا (جان فوكيه، 1452-1460)
increase حجم الخط decrease
يحفل عدد لا يستهان به من نصوص التوراة بالعنف. نقرأ، مثلاً، في كتاب يشوع بن نون أنّ هذا أوعز إلى الشعب أن "يحرّموا بحدّ السيف" كلّ ما في مدينة أريحا من رجال ونساء، حتّى البقر والغنم والحمير. ونقرأ في كتاب الملوك الأوّل أنّ النبيّ إيليّا قتل أربعمائة نبيّ من أنبياء البعل بحدّ السيف. التوراة، في سردها مثل هذه الحوادث العنفيّة، لا تختلف عن كثير من النصوص الدينيّة الأخرى. لكنّ هذه الملاحظة لا تخفّف من وطأة المعضلة التأويليّة على قدر ما يرتبط العنف بالله نفسه في كثير من هذه المقاطع.


ربّما يكون الحلّ الأسهل للتعامل مع مثل هذه النصوص هو التشكيك في تاريخيّتها. لا يمكن نكران الطابع الأسطوريّ لبعض نصوص التوراة. علماء الآثار يؤكّدون، مثلاً، أنّه في الزمن الذي من المفترض أن يكون قد حصل فيه دخول بني إسرائيل إلى أرض كنعان، وهذا يقوم طبعاً على التخمين، ليس ما يدلّ على خراب حصل في أريحا. ومن ثمّ، قصّة التوراة عن سقوط أسوار أريحا ليس هناك ما يشير إلى أنّها حدثت بالفعل. لكنّ التشكيك في تاريخيّة الحوادث العنفيّة لا يحلّ المعضلة المرتبطة بصورة الله في الكتاب المقدّس. بكلمات أخرى: إله التوراة يظهر عنفيّاً في بعض نصوصها بصرف النظر عن الحقيقة التاريخيّة. فإذا كانت الجماعة الدينيّة تقرأ هذه النصوص وتعتبرها مقدّسة، كيف نتعاطى مع صورة الإله العنفيّ الذي ينبثق منها؟

الطريقة الثانية التي يمكنها أن تسعفنا على تدبّر المقاطع العنفيّة هي قراءتها في سياقها النصّيّ، أي عدم عزلها عن السياق الأوسع التي ترد فيه، ومحاولة تأويلها انطلاقاً من هذا السياق. هذه القاعدة التفسيريّة كرّسها الأقدمون حين قالوا بضرورة تفسير الجزء انطلاقاً من الكلّ، لأنّ الكلّ، كما كتب أرسطو ذات يوم، هو أكثر من مجموع الأجزاء منفردةً. ماذا يعني هذا تأويليّاً؟ عمليّة قتل أنبياء البعل، مثلاً، التي قام بها إيليّا، وبقطع النظر عن تاريخيّتها، هي جزء من كلّ. هذا الكلّ يبيّن أن الربّ لم يكن راضياً عن غيرة إيليّا المفرطة التي أفصحت عن ذاتها في قتل هؤلاء الأنبياء، حتّى إنّه يوبّخه بلطف عبر ظهوره له لا في الريح ولا في الزلزلة، بل في النسيم اللطيف. يأخذنا النصّ، إذاً، حين نقرأه بشكل غير مجتزأ إلى مكان آخر يظهر فيه النبيّ بوصفه غير معصوم عن ارتكاب الأخطاء فيما الربّ يتّخذ مسافةً من «هفوات» نبيّه ويؤدّبه على طريقته الفظّة.


هذه المسافة بين مقاصد الله وسلوك أنبيائه تحيلنا على مسافة أخرى هي تلك القائمة بين صورة الله من حيث جوهره وصورته كما تنعكس في النصوص التوراتيّة. السؤال التأويليّ واضح هنا. فالله في العمق متعال عن أيّ نصّ من النصوص حتّى لو كان هذا النصّ ملهماً: «النصوص محاولات ولو ملهمة» (جورج خضر). لكن، من جهة أخرى، نحن لا نمتلك مدخلاً إلى معرفة الله إلّا هذه النصوص إيّاها. من الطبيعيّ، إذاً، أن نفترض أنّ ثمّة نصوصاً تستعلن فيها الذات الإلهيّة أكثر من نصوص أخرى، وأنّ هناك نصوصاً تحتجب فيها هذه الذات الإلهيّة أكثر من نصوص أخرى. بالمنطق ذاته، ثمّة نصوص تظهر فيها الذات الإنسانيّة، بما تختزنه من غلوّ ونزوع إلى العنف، أكثر من نصوص أخرى، فيما هناك نصوص يتراجع فيها الإنسانيّ كي يتيح للإلهيّ أن يمعن في ظهوره. لقد عبّر مكسيموس الراهب والمعترف، الذي عاش في القرن السابع، عن هذه الديناميّة المهولة بقوله إنّ الله «يظهر محتجباً ويحتجب ظاهراً». وهذا مردّه أنّ الله يختلف كلّ الاختلاف عن كلّ شيء في هذا العالم المخلوق، بما فيه النصوص التي أوحى هو نفسه بها، ويحاول، على الرغم من ذلك، أن ينفذ منها إلينا. 

من الواضح، إذاً، أنّ الوحي لا يلغي العناصر الإنسانيّة لدى الأنبياء، كما حال النبيّ إيليّا مثلاً، ولا لدى كتّاب النصوص بطبيعة الحال. كيف السبيل، إذاً، إلى «غربلة» النصوص المقدّسة، إذا جاز التعبير، وما هو المعيار الذي يمكن الاستناد إليه لتلمّس مكامن استعلان الله ومكامن احتجابه؟ المسيحيّة، التي تعتبر التوراة جزءاً لا يتجزّأ من كتابها المقدّس، تعطي جواباً عن هذا السؤال لا لبس فيه: المعيار هو محبّة الله ولا عنفيّته التي ظهرت عبر موت المسيح على الصليب. هناك رفض يسوع أن يقاوم الشرّ بالشرّ، وطلب من الله أن يغفر لصالبيه. كلّ نصوص الكتاب المقدّس يجب أن تُقرأ في ضوء هذا الحدث: ما يتّفق مع هذه المحبّة هو مكان لاستعلان الذات الإلهيّة، وما يختلف معها هو مكان لاحتجابها. 

ولكن ماذا عن اليهوديّة؟ اليهود يقرأون التوراة من خارج الإيمان بالمسيح، ومعظمهم ما زال يرى في ظاهرة يسوع الناصريّ مسألةً إشكاليّةً. غير أنّ هذا لا يغيّر من حقيقة أنّ ثمّة خطّاً بيانيّاً في غالبيّة النصوص التوراتيّة يغلّب المحبّة على العنف. فهذه النصوص تعلي من شأن الضعيف واليتيم والأرملة، وتدعو إلى احتضان الغريب وإلى محبّة القريب كمحبّة الذات. ولا شكّ في أنّ ظاهرة يسوع الناصريّ هي في تواصل واضح مع هذا الخطّ، الذي لا نعثر عليه في كتب الأنبياء فحسب، بل هو يكاد يكون حاضراً في كلّ سفر من أسفار التوراة على الرغم ممّا نجده فيها من تعدّد للأصوات والسياقات والمرامي. القارئ، إذاً، مطالب بأن يتّخذ قراراً. فهو إمّا أن يعتبر أنّ الأصل في الله تعكسه النصوص التي تعبّر عن المحبّة والرحمة واللطف ناسباً النزعات العنفيّة (وهي إحصائيّاً أقلّ بكثير) إلى بشريّة الكتّاب ونزواتهم؛ وإمّا أن يعتبر أنّ الأصل في الذات الإلهيّة هو العنف، فيلجأ إلى المقاطع التي تمجّد القتل والذبح والتنكيل كي يبرّر كلّ ما يعتمل في ذاته هو من فوقيّة وعنصريّة وقوميّة مفرطة. لكنّ السؤال الذي يرخي بظلاله هنا هو الآتي: إذا كان الأصل في الذات الإلهيّة هو العنف، كيف السبيل إلى تفسير كلّ هذا الفيض من الرحمة الذي يرشح من غير نصّ في التوراة؟ إذا كانت المحبّة هي الأصل، يسهل تفسير العنف بوصفه انحرافاً عن هذا الأصل مصدره مخيّلة الكتّاب ونزعتهم إلى إسقاط عنفهم على الذات الإلهيّة: «يا ابنة بابل الصائرة إلى الخراب… طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة» (مزمور ١٣٧). ولكن إذا كان العنف هو الأصل في الذات الإلهيّة، كيف نفسّر المحبّة المنسوبة إلى الله في الكثير من النصوص التوراتيّة؟ هذا كلّه يدلّ على أنّ قرّاء النصوص ليسوا مجرّد متفرّجين أو متلقّين، بل هم جزء لا يتجزّأ من عمليّة استخلاص صورة الله في النصوص المقدّسة وكيفيّة انعكاسها في مفاصل الحياة قاطبة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها