الخميس 2023/10/19

آخر تحديث: 16:41 (بيروت)

أنطون تابت... المثقف الشيوعي الحداثي باني الكنائس المارونية

الخميس 2023/10/19
أنطون تابت... المثقف الشيوعي الحداثي باني الكنائس المارونية
السان جورج وأنطون تابت
increase حجم الخط decrease
في كتابه "لبنان البدايات في سيرة مثقف حداثي"(*) للمعمار والنقيب والمهندس جاد تابت، لا نقرأ سيرة والده الشيوعي، الماروني، ابن بحمدون، المهندس "الملتزم" أنطون تابت فحسب، بل قصة لبنان كله، في منازله الكثيرة وتحولاته واقتصاده وعمرانه وأفكاره ورثاثته واحتضاره وعلاقته بالعالم. هي "رحلات في الثقافة والهندسة والسياسة"، من أطلال بحمدون وأطرافها وحريرها حكاياتها التي "طواها الزمن"، ومبانيها التي "أعيد بناؤها بعجلة بعد الحرب"، مبانٍ "تبدو كأنها وضعت بالصدفة من دون أي نظام"، إلى الثقافة اللبنانية وتغيراتها في زمن الانتداب والاستقلال، من زمن شرانق الحرير ومعاملها والرأسمالية المتوحشة في القرن التاسع عشر إلى صعود التيارات الثقافية والسياسية الشيوعية والقومية في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، إلى طريق الشام وسكة الحديد وأثرهما، إلى معمل البيرة ودوره، من بناء فندق السان جورج السياحي إلى الكنائس المارونية في الحمرا والشياح ورأس النبع وصولاً إلى المهندس البرازيلي أوسكار نيماير، من الثقافة الفرانكوفونية إلى العلاقة بالحركة السريالية وأخواتها إلى تأسيس مجلة "الطريق" وعصبة مكافحة الفاشستية وحركة أنصار السلم، من السوريالي الشاعر جورج شحادة إلى الفنان المستشرق جورج سير إلى الشيوعيين رئيف خوري وعمر فاخوري، ومن بيروت إلى باريس، ومن الخندق الغميق إلى الاتحاد السوفياتي وجمهورياته وجوائزه.

بدأت حكاية أنطون تابت كما يقول إلياس خوري في تقديمه للكتاب، بحدّاد بحمدوني يُدعى جريس تابت الابن الوحيد لحنا تابت، استُدعى للعمل في صيانة المعدّات في كرخانة "القرية" لصناعة الحرير التي اشترتها شركة "الأرملة غيران وأولادها". هكذا انقلب مصير عائلة جريس حنا تابت رأساً على عقب. كان مقدراً لجميع أفراد العائلة، بمن فيهم (الرفيق) انطون الصغير، العمل في كرخانة الحرير، ومنها يقول جاد تابت "كلمني والدي مرّة عن الأوضاع المأسوية التي كانت تعيشها العاملات وظروف العمل القاسية التي كانت تُفرض عليهن من أجل إنتاج الحرير الذي كان يّصدر إلى فرنسا لتصنع ملابس الأثرياء الفخمة. وأكد لي أن ما شاهده من المآسي في معمل الأرملة غيران وأولادها، شكّل أساس التزامه الوطني ورفضه لاستغلال الإنسان للإنسان وانحيازه الدائم "لمن هم تحت" كما كان يقول"...


من هنا كانت بدايات أيقونة العمارة اللبنانية، وبِدء تحوله إلى اليسار و"الفلك الأحمر". لقد كان اخوته يريدون إرساله إلى ليون الفرنسية ليتدرّب في المركز الرئيس لشركة أرملة غيران وأولادها ويعود بعد ذلك إلى لبنان ويتسلّم مسؤوليات في معمل "القرية"، إلى أنّ هذا الأمر لم يكن وارداً إطلاقاً بالنسبة إلى الطالب الناجح أو أنطون تابت الذي تعلّم في مدرسة المطران، فقرر أن يتقدّم لامتحان الدخول في كلية الهندسة التابعة للجامعة اليسوعية من دون أن يُعلم عائلته بذلك، وتمكّن من اجتياز الامتحان بنجاح، والتحق بالجامعة خريف 1923، وشكل مع أصدقاء كان يعرفهم من أيام المدرسة، بالإضافة إلى الشاعر جورج شحادة الذي تعرف إليه في الجامعة، مجموعة "الفرسان". وهؤلاء الشبان الذين يلغوا العشرين من عمرهم عندما كان القرن العشرين في عقده الثالث، كانوا يشعرون أنهم "يركبون التاريخ".

(أطلال معامل الحرير في بحمدون)
كانت السلطنة العثمانية قد انهارت بعد أربعة قرون من السيطرة على المنطقة، وشهدت الأقطار التي كانت تابعة لها، تقلبات دراماتيكية وحركات نزوح وهجرة ومجيء آلاف الأرمن إلى سوريا ولبنان، وقيصر روسيا حامي الروم كان خلعه البلاشفة في روسيا وأعدموه وأسرته، وأعلن الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا وفقاً لاتفاق سايكس بيكو. وسنة 1920 أعلن المفوض السامي الجنرال غورو إقامة "دولة لبنان الكبير"، وفي خضم هذه التحولات باتت بيروت عاصمة البلاد الجديدة، وسعى الفرنسيون إلى تطوير وسطها وتحديثه، "احتفت تدريجياً ملامح المدينة العثمانية، وتقلّصت أنماط الحياة التقليدية، وشهد المجتمع اللبناني تحوّلات كبرى تجلّت ببروز أنماط وسلوكية وممارسات استهلاكية، جديدة وتطوير النشاطات السياحية والترفيهية". وحاولت سلطات الانتداب عبر السياسة الثقافية التي أتبعتها تأكيد شرعية الوجود الفرنسي في المنطقة من خلال التركيز على العَلاقة التاريخية التي ربطت فرنسا بالمسيحيين، ولم يكن للفرسان الشباب أن يتقبّلوا هذا الخطاب الطنان المليء بالكليشيهات التي "تحوّل التاريخ إلى أسطورة"، وكانوا يشعرون أنهم غرباء في بيئة ثقافية محكومة باستعادة لغة أدب القرن التاسع عشر الفرنسي، التي تتجاهل "الثورة التي أحدثها شعر رامبو"...

الفرسان

كانت سنوات الدراسة قد انتهت، وعلى الأصدقاء "الفرسان" أن يبحثوا عن طريقهم في هذا العالم الجديد، فانتقل نعمة اده إلى دمشق مع عائلته بعد وفاة والده، وبدأ جورج شحادة يبحث عن عمل في مكتب محاماة أو في إحدى الإدارات بعد حصوله على شهادة في الحقوق. أما أنطوان موراني، فلم يكن في استطاعته مواصلة الدراسة بعد وفاة والده. وفي خضم هذا الجو من الإحباط الشديد، أتاهم "الخلاص" من حيث لم ينتظروه، يقول جاد تابت، عبر رجل أربعيني اسمه غبريال بونور، كان مدير المركز الفرنسي في برشلونة، وكان ناقداً أدبياً في المجلة الفرنسية الجديدة. لا معلومات واضحة عن كيفية عن لقاء الشبان الأربعة بغبريال بونور، لكن سريعاً ما أصبح هذا الأخير مرجعاً أساسياً في حياتهم...
 
(الحركة السوريالية في الثلاثينيات وتضم أنطون تابت جورج شحادة وأنطوان موراني واسكندر أبو شعر)

كان أول الغيث سفر أنطون تابت إلى باريس للتخصص في الهندسة المعمارية. انطباعه الأول كما ورد في رسالة إلى أهله: "أنا لا أفهم كيف أنّ الحضارة يمكن أن تنتج تلك الدرجة من السخافة... الجميع يركض في كافة الاتجاهات نحو هدف مجهول أو بالأحرى نحو هدف واحد المال ثم المال". هكذا اكتشف الشاب العشريني القادم من لبنان، عالم الرأسمالية المنفلت الذي اجتاح العواصم الأوروبية والأميركية في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى، وسبق أن رأى التعسف في التعاطي مع عمال معامل الحرير في لبنان. في مثل هذه الظروف لم يكن من الصعب على مهندس تخرّج حديثاً أن يلتحق بأحد مكاتب الهندسية العاملة في الساحة الباريسية، وهنا التحق بجماعة اوغست بيريه الذي يقيم "علاقات مميزة مع عدد من الفنانين والادباء الذين ينتمون إلى مختلف تيارات الحداثة". وفي مكتبه تعرّف إلى العديد من الزملاء الذين سيحافظ على علاقة معهم طوال حياته. ورافق انطون التحولات، وكان يشارك احياناً في النشاطات السوريالية، وفي الوقت نفسه، يحاول جاهداً البحث عن ناشر لمجموعة قصائد سلمه اياها صديقه جورج شحادة، وبعد جهود كبيرة تكللت محاولاته بالنجاح، اذ صدر في شهر جزيران 1928 الديوان الشعري الأول لجورج شحادة تحت عنوان "شرارات"...


السوريالية
بعد عودة أنطون تابت الى لبنان، توطدت علاقته بالفرسان وأصبحوا يمارسون الكتابة التلقائية على طريقة السورياليين وأسلوب "تجاور الصور المتفرقة في النص الواحد بهدف إبراز قوة التعبير الشعري"... وااصطدمت تجربتهم بتقليدية الجريدة الفرانكوفونية التي حاولوا النشر فيها، فبعدما نشروا ملحقاً، تلقت الصحيفة سيلاً من الاحتجاجات، إذ اعتبره القراء "كلاماً فارغاً يجافي الذوق السليم". وكانت بيروت قد احتلتْ موقعاً أساسياً في منظومة الاقتصاد السياحي التي بدأت تتشكل عبر الرحلات التي نظمتها الشركات الأوروبية لزيارة المواقع التاريخية شرقي البحر المتوسط، وعرف المشهد المديني في بيروت خلال الثلاثينيات من القرن الماضي تحولات رافقت توسّع المدينة واستيعابها لسكان جدد أتوا من مناطق مختلفة، ومن اللاجئين الأرمن والأكراد، وبرزت أنماط سلوكية وممارسات استهلاكية، أتت مع تبدّل ملحوظ في تقنيات البناء، وتمثلتْ في التخلي عن استعمال الحجر الرملي واعتماد الاسمنت والباطون المسلح مادة أساسية في الهيكل الانشائي للبناء، كما في زخرفات الواجهات.

مهندسون وجيل جديد
وكان معظم الانتاج المعماري في هذه المرحلة يقوم على أيدي بنّائين ومعلّمي عمار اكتسبوا مهارتهم من خلال الخبرة. أما المباني العامة والمؤسسات الرسمية، فكانت توكل إلى مهندسين إيطاليين أو فرنسيين، بالإضافة الى المهندسين القلائل الذين كانوا أتموا دراستهم في الولايات المتحدة وأوروبا. من بين هؤلاء، يوسف افتيموس ومردروس التونيان.. وإذ تميز النتاج المعماري الأول بطابعه الانتقائي الذي مزج بين النمط العثماني المستحدث والترتيبات النيوكلاسكية وتيار الارت ديكو، برزت في بداية الثلاثينيات اتجاهات جديدة طرحت ضرورة البحث عن لغة معمارية تتناسب مع التحولات الكبرى التي شهدها العصر، والتي بدأت تظهر آثارها في لبنان والمشرق العربي. فنشأ جيل جديد من المهندسين الشباب حاولوا التوفيق "بين متطلبات الحداثة وشروط تحقيقها المحلية". هؤلاء هم رواد الحداثة الهندسية، جوزف نجار وفريد طراد وأنطون تابت، كانت تربطهم رؤية مشتركة لضرورة التعاطي مع الحداثة كـ"معطى تاريخي لا مفر منه"، ويمكن اعتبار هؤلاء الرواد الثلاثة ممثلين لثلاثة نماذج مثالية لعلاقة المهندس بمهنته وبالمجتمع الذي يعيش فيه.

(رئيف خوري)

النموذج الأول الذي يمثله جوزف نجار، هو نموذج المهندس الذي يضع خبراته في خدمة مؤسسات الدولة بصفتها المسؤولة عن ادارة شؤون المجتمع والسهر على المصلحة العامة. النموذج الثاني الذي يمثله فريد طراد، وهو نموذج المهندس الليبرالي الذي يعمل ضمن القطاع الخاص، إما في الدراسات أو في التعهدات، وكثيراً ما تميل هذه الفئة من المهندسين إلى الانكفاء على الأمور السياسية وحصر اهتمامها بالمواضيع الفنية أو التقنية البحثة. أما النموذج الثالث الذي ينتمي أليه أنطون تابت، فيمكن أن نسميه المهندس "الملتزم"..."وليس من السهل أن نُحدد بوضوح معالم هذه الفئة من المهندسين والخصائص التي تميّزها عن النموذجين اللذين ذكرناهما آنفاً" يقول جاد تابت.

ولم تمض خمس سنوات على عودة أنطون تابت من باريس، حتى كان اسمه قد ارتبط بمبنيَين اعتبرا في ذلك الوقت من أهم مباني الفنادق في الشرق الاوسط، فندق السان جورج في بيروت وفندق اوريان بالاس في دمشق. هكذا ارتبط اسم أنطون تابت بدخول الحداثة إلى المشهد المعماري في بلاد الشام، وترسّخ موقعه كأحد ممثلي الطليعة المعماريين في المشرق من خلال ما كان يسميه "التجارب المعمارية" التي أتيح له أن يخوضها ولم يكن قد بلغ بعد الثلاثين من عمره. وشملت هذه التجارب، ثلاثة مشاريع تعتبر اليوم من أبرز معالم بدايات الحداثة المعمارية في لبنان، معمل للبيرة في سد البوشرية، والمبنى الجديد لمدرسة الحكمة في الأشرفية 1937، ومدرسة الليسية الفرنسية للبنات في حي زقاق البلاط سنة 1938.

(عمر فاخوري)

وبموازة بروز التيارات الثقافية والمعمارية، بزرت التيارات السياسية المتأثرة بالتحولات العالمية، فنشأ الحزب القومي وحزب الكتائب والحزب الشيوعي وحزب النجادة. كان أنطون تابت من المقربين من عصبة مكافحة الفاشستية، وفي العام 1939 قرر أن يتقدم بطلب انتساب الى الحزب الشيوعي، وفي 20 كانون الأول 1941 صدر العدد الأول من مجلة "الطريق" التي قدّمت نفسها كونها "رسالة ثقافية نصف شهرية تصدرها عصبة مكافحة النازية والفاشستية في سورية ولبنان". وضمّت هيئة تحرير المجلة الجديدة، الى جانب أنطون تابت، صاحب الامتياز، كلاً من عمر فاخوري ويوسف ابراهيم يزبك ورئيف خوري، وانضم اليهم ابتداء من العدد الثالث عشر(تموز 1942) الاديب السوري كامل عياد، وترأس تحريرها قدري قلعجي. و"كان هؤلاء مثلهم مثل الكثير من مثقفي جيلهم، يشتركون في اعجابهم بالثورة الفرنسية بصفتها ثورة شعبية في وجه الامتيازات والعنصرية والاستعباد، من اجل المساواة والحرية والحق بالعيش الكريم. وإذ كانوا قد أتوا إلى الماركسية انطلاقاً من إيمانهم بالمبادىء الإنسانية التي حملتها فلسفة الأنوار، وكانوا ينظرون الى الثورة البلشفية في روسيا بوصفها وريثة الثورة الفرنسية".. ومن خلال مراجعة أرشيف "الطريق" يتبين أنّ التوجه العام خلال السنتين الأوليين من تاريخ المجلة، كان يركز على الخطر الكبير الذي يمثله المدّ الفاشي على شعوب العالم أجمع...

الفن والحرية
في أوائل سنة 1942، كان أنطون تابت قد تلقى دعوة من الأديب المصري جورج حنين للمشاركة مع عدد من الفنانين اللبنانيين في "معرض الفن الحرّ" الذي نظمته "جماعة الفن والحرية" في القاهرة خلال شهر أيار 1942. وشكل المعرض تظاهرة حملت في طياتها معاني عميقة تمثلت في النضال المشترك ضد الخطر الفاشي والدعوة الى فن حرّ مع رفض التقوقع، إلا أن هذه التجربة "لم يكن لها أن تستمر بعد انتهاء المعركة ضد الفاشية، إلا عبر تحولها إلى مشروع ثقافي بإمكانه أن يجمع القوى الثورية على نطاق المشرق العربي ويؤمن في الوقت نفسه انفتاحها على الأفكار التحررية في العالم. مشروع يحاول تأسيس حداثة عربية تندرج ضمن مبنى ثقافي له خاصيّاته التاريخية ويطرح مجموعة أسئلة تتخطى إشكالية علاقة المركز بالاطراف والموقف الملتبس من ماضٍ ينظر إليه تارة وكأنه عقبة لا بد من تخطيها وطوراً كأسطورة لا تلبث أن تتحوّل إلى شكل من أشكال الفولكلور". لكن هذا المشروع الذي كان يطمح إلى صوغ مشروع حداثي ثقافي، أُجهض، كما أُجهضت مشاريع أخرى...


(جورج شحادة)

وشهد انطون تابت الصراع الذي نتج عن تقسيم فلسطين العام 1948. كانت الأحزاب الشيوعية العربية تعيش حالة من الارتباك الشديد بسبب الدعم الذي تلقته اسرائيل من الاتحاد السوفياتي، فعاشت الأحزاب نوعاً من التبعية المؤلمة. فالشيوعيون في فلسطين أيدوا تقسيم فلسطين، أما في سورية ولبنان، وبعد مرحلة من التريث، انبرى خالد بكداش بعبارته الشهيرة "السوفيات لا يخطئون"، وأصدرت الأحزاب الشيوعية العربية بياناً مشتركاً في تشرين الأول 1948 أعلنت فيها تبنيها للموقف السوفياتي، ورفضها للحرب التي أعلنها الحكام العرب. أدّت هذه المواقف إلى عزلة الأحزاب الشيوعية عن الجماهير العربية، وانقسمت الأحزاب الشيوعية. فبسبب الاعتراض، جُرّد القائدان الشيوعيان اميل توما وفرج الله الحلو من كامل مسؤولياتهما الحزبية، وفرض عليهما القيام بنقد ذاتي، لما اعتبر "انزلاقاً إلى مواقف انتهازية وانحرافاً خطيراً عن المبادئ اللينينية الستالينية". ونالت مجلة "الطريق" قسطها من الحملة التطهيرية، اذ اختفت أسماء رافقت المجلة منذ نشأتها، واستُبدلت بأسماء جديدة. فغابت من اوائل الخمسينات، أسماء رئيف خوري وقدري قلعجي وأميلي فارس ابراهيم، وكان انطون تابت شديد الارتباك، حاول أن يبقى بعيداً عن أجواء التشنج التي سيطرت على الحزب في تلك السنوات. فبعد مجيء إميل توما الى بيروت، قام بجمعه بالسفير السوفياتي ليشرح له موقف الشيوعيين الذين عارضوا التقسيم، وحاول أن يحافظ على علاقة جيدة مع رئيف خوري الذي طرد من الحزب، وكان يستقبلة سراً في منزله. ولم ينج تابت من المطاردات والاتهامات، فكانت لدى خالد بكداش نية اتهامه بالارتباط بالبريطانيين..



وخفت وطأة التشنج مع وفاة ستالين، وكان لبنان في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي قد شهد فترة ازدهار اقتصادي أفادت من المقاطعة العربية لإسرائيل وبدأ تطور اقتصادات النفط  في الخليج. وشهد لبنان تدفقا لرؤوس الأموال بعد الانقلابات التي حصلت في أكثر من بلد عربي، وازدادت كثافة البناء في الوسط التجاري، وانتشرت مقاهي الرصيف، وبدأت الأراضي الزراعية والتلال الحرجية تتآكل بفعل التمدّد الحضري. في هذا الجو، الذي كانت المضاربات العقارية تتحكم فيه بكيفية تطور الحيز المديني، لم يتسن لأنطون تابت تطبيق المبادئ الهندسية التي كان ينادي بها من أجل عمارة ذات بُعد اجتماعي. وبالرغم من الصبغة الحمراء التي كانت ترافق "الرفيق أنطون"، فهو كُلّف بمشاريع بارزة، منها مبنى الاتحاد الوطني للتأمين مقابل حديقة الصنايع، وكلفته الكنيسة المارونية بأهم مشاريعها، ربما بـ"صفته المهندس الماروني الأكثر شهرة في ذلك الوقت". فصمّم المهندس الشيوعي مباني جامعة الروح القدس في الكسليك، ورمّم كاتدرائية مار جرجس المارونية في وسط العاصمة، وكُلّف ببناء عدد كبير من الكنائس، أهمها مار مخايل في الشياح، وكنيسة النجاة في رأس النبع، وكنيسة مار انطونيوس في الرميل، وكنيسة العطايا في حي بيضون في الأشرفية، بالإضافة إلى كنيسة القديس فرنسيس للرهبنة الكبوشية والمدرسة التابعة لها في شارع الحمرا. لقد كان أشبه بالمهندس الرسمي للكنيسة المارونية.

(دير-مار-فرنسيس-الحمرا)

سرديات كثيرة يكتبها جاد تابت بطريقة مكثفة، من جدليات علم الآثار والعمارة، واحتدام النقاش حول الهوية اللبنانية، وصولاً إلى مقاربة "الحداثة العربية الملتزمة"، إلى جدلية الماركسية والوجودية في باريس المحرَّرة، والمجرى التاريخي الممتد من طشقند وموسكو إلى فلسطين، مروراً بالنكبة والحرب الباردة، قبل التوقف عند مواجهة انحياز لبنان إلى المعسكر الغربي، والدروب المتعرّجة لزمن التخطيط الشهابي والوحدة العربية، وصولاً إلى "جائزة لينين للسلام"...

وبعد وفاة تابت، تشرذمت شلة أصدقاء شبابه. فبعدما حاول أنطوان موراني ونعمة اده فتح شركة استيراد وتصدير، ظلّ تابت يسدّد ديون صديقيه اللذين كانا يجيدان إلقاء الشعر أكثر من ممارسة الأعمال التجارية، إلى أن انتهت شركتهما بالإفلاس. أما غبريال بونور، فبعدما طُرد من السلك الدبلوماسي الفرنسي بسبب مواقفه المناهضة لسياسة بلاده في الجزائر والمغرب، التحق بجامعة عين شمس المصرية ثم بجامعة الرباط ثم انعزل في بلدته الفرنسية. وبعد اندلاع الحرب، هاجر جورج شحادة إلى باريس حيث توفي ودفن في مقبرة مونبارناس. أما ماري تابت، فبعد فاة زوجها، لم تعد تحتمل العيش في محيط تذكّرها كل زاوية فيه بغياب شريك حياتها، فتنازلت عن إيجار منزل العائلة في الخندق الغميق لصديقتها جانين ربيز التي حولته إلى مركز ثقافي اسمه "دار الفن والأدب" وفي السنوات الأولى من الحرب تحوّل الحي الى منطقة خطوط تماس.

ومع سقوط جدار برلين وفشل النهج الاشتراكي على الطريقة السوفياتية، انتهى زمن انطون تابت ورفاقه، واندثرت أحلام التغيير الثورية، وصعدت الرأسمالية المتوحشة والتعصب.
(*) منشورات رياض الريس(بيروت)
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها