ومثّل حدث الهجران تجليًا لمشكلة نفسية أعمق تكرّست طوال السنوات التي تلقّت خلالها تنشئتها الدينية في طفولتها، تلك التي خلقت لديها خللاً في هوية الذات. فلم تعد تعرف أي الأشياء ينتمي إليها وأيها ينتمي إلى الآخر، لم تعرف ما هي هويتها الخاصة كامرأة وإنسانة مستقلة بذاتها عن الطائفة الإنجيلية ومواعظها. هذه الحالة الغريبة خلقت لديها شعورًا من انعدام الثقة في غرائزها كأنثى، بل ما عادت تجد غريزتها في مكانها، لأنها باتت مزيجًا من القلق والهواجس والأفكار المتضاربة طوال الوقت، متسائلة عما يمكن أن تفعله امرأة طبيعية الغرائز في مكانها. وكذا، لم يكن انهيارها، بعد هجر صديقها لها، صدىً لحالة مجردة من المعاناة العاطفية التي يولدها الفراق. بل كان القلق الذي يسكن امرأة تجاوزت الثلاثين عامًا، وهي غير متزوجة وليس لديها صديق، وليس لديها أي فكرة عن مستقبلها سوى الخوف من أنها لن تنجب الأطفال وستموت وحيدة وغير محبوبة، تنفجر بالبكاء حين تعي قلق السؤال بكامل ثقله: "ما مصيري الآن؟ مَن سأصاحب؟ وماذا سأفعل؟". فالأمر لا يتعلق على نحو شخصي بصديقها الذي ظنّت أنه حبّها الكبير، وإنما بالمجهول الذي لطالما خشيت التحديق فيه وجهًا لوجه، فتمسكت بتوم وكأنه السبيل الوحيد لنجاتها منه، وكل ما كانت تفكر فيه ليس حبها لـ"توم"، وإنما كيف تتفوق على ذكائه وتُعوّده عليها وتحوله إلى خطيب وثم إلى زوج وأب، لتتساءل في النهاية: هل هو "الحُب الكبير" الذي تبحث عنه؟ أم أنه مجرد شخص مناسب سمح لها بأن تعمل على علاقتهما وتطورها؟ وفتحت بهذا السؤال المسكون بالقلق، نافذة لمراجعات كثيفة وجريئة في حياتها، وحياة القارىء، حيال كل ما ظن أنه "حب" في يوم ما من حياته.
الرواية تكثيف مخيف لكوابيس المرأة، وهي بذلك تتجاوز حدود التجربة الفردية إلى المعاناة الإنسانية التي تجمع نساء العالم على تعدد خلفياتهن الثقافية والدينية، حين تنفذ إلى القلق الوجودي المرتبط ببيولوجيا الأنثى. تقول أليسون لصديقها: "لا يمكنك أن تفهم هذا أبدًا، فالتقدم في السن إلى درجة عدم القدرة على إنجاب الأطفال، ليس أحد همومك". كما تعبّر عن القلق الغريب الذي يخلقه الرقم "30" في حياة المرأة، إلى حد الحرج! ذلك الذي يجعل الرجال يتخوفون من إقامة علاقات معها، انطلاقاً من فكرة أنها في مرحلة عمرية خطرة، ومن ثم فإن كل همّها هو الإيقاع به في وقت قصير وإنجاب طفل منه، قبل فوات الأوان. بينما لو كانت أصغر، في أي رقم بجانب العشرين، فستكون هي والآخر أكثر استرخاء في العلاقة. تقول لها صديقتها: "لقد أضعتِ فترة التنفس على توم". فببلوغها الثلاثين، تكون تجاوزت العمر الذي بوسعها فيه أن تتباطأ وهي مطمئنة إلى خيارات وفرص أخرى في انتظارها، وإلى أنه لا بأس في تجربة لم تنجح في تخطي كونها تجربة حياتية، وأنها ليست مصيراً شبه نهائي لشكل الحياة الآتية.
وقد تُرى هذه السردية مبتذلة للغاية، وكأنها تؤطِّر صورة نمطية عن عالم المرأة، وهو ما جعل هذه الرواية محل نقد لاذع ضيّق الذرع بالرؤية التي لم تزل أسيرة هواجس الجدّات ذاتها في عصر تغيّرت فيه المعايير، وما زالت تسوّق مفاهيم "الفطرة السليمة" "والغريزة الطبيعية". لكن، ماذا لو كانت هذه الهواجس، التي تبدو تافهة إلى حد مزعج، تحكم حياتنا فعلاً، وتتحول إلى معاناة سرّية؟ ومَن ذا بوسعه أن يُنكر أن نساء كثيرات لم يتجاوزن فكرة الحاجة الضرورية للآخر من أجل حياة طبيعية وصحية، حتى ولو فعلن ذلك نظريًا، إلا أنهن لم يستطعن في الواقع أن يتجاوزن إحساسهن الشخصي بالنقص، بوحدتهنّ، وأنهن غير محبوبات أو مهمّات لأحد على نحو شخصي، وأن ثمة حياة أخرى كاملة من السعادة التي يعيشها الآخرون قد فاتتهنّ بلا عزاء ولا أمل؟
أفكر أنني لم أكن سأحبّ شخصية أليسون هوبكنز، لو كانت واحدة من دائرة معارفي، فما كنت سأحتاج لأمرأة لا تمنحني أملًا بأن في وسعي أن أكون وحدي، وسعيدة ومرتاحة، وأن الأمر لن يمثل أزمة حقيقية في حياتي. ولم أكن كذلك سأحبّ الدراما التي تثيرها أليسون حولها في أن "يكون المرء هواية ذاته". غير أني أحببت ذلك الدفق الساحر للصدق الحميم في كلمات هذه الشخصية. الصدق الذي يجعل قلب الآخر شفافاً تماماً، ويمنحك حق الدخول، من دون أن تشعر بأي جهد شخصي بذلته المؤلفة في تنظيم روايتها، حتى بدت أنها تتحدث بانفعال طوال الوقت عن نفسها، هي، وعن مشاكلها وعن كل ما يخطر في بالها من هواجس وأفكار. وكان لذلك أن يخلق واسطة رائعة للتواصل بين النساء، تضعنا وجهاً لوجه مع الكوابيس الممكنة في عالمنا الخاص، نحن النساء، وتوقظ عبر كلماتها غريزة المرأة ثاقبة النظر ذات الخطوات الحذرة. المرأة التي تعيش مخاضها الخاص ورحلتها في البحث عن الحياة التي تريدها، ولا تستلم لضعفها، بل تواجه العاصفة لتخرج بأمل لحياة جديدة نابضة ومنفتحة على ذاتها والآخر، بشعور رائع في القلب حين تشرق شمس الحياة مرة أخرى، معلنةً فصلاً جديداً تذوب فيه ثلوج الماضي وكأنه لم يكن شتاء قط.
[1] راينر ماريا ريلكه، "رسائل إلى شاعر شاب"، ترجمة: صلاح هلال، دار الكرمة للنشر، القاهرة، 2018م.
[2] سارة دان، "الحب الكبير"، ترجمة: زينة جابر إدريس، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2007.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها