بالتأكيد هذا عمل فني، يقول المرء لنفسه، ذلك النوع من الفن العام الذي لا يحصر نفسه داخل حوائط الغاليريهات. نصف فن ونصف تحريض سياسي، من النوع الذي تكمن قوته في غموضه. يميل فنانو هذا الوسيط العام للادعاء بأن أعمالهم تتقاطع مع اليومي حرفياً، وأنها عضوية بالمعنى الاجتماعي، ومفتوحة أمام الجمهور للمساهمة فيها لتغييرها أو لمحوها أو لتغطيتها أو لنقلها، للإضافة إليها والمحو منها.
بعد الأسبوع الأول من الحرب، سرت حمّى التضامن "الاستهلاكي" مع أوكرانيا في أنحاء لندن، بمدى تغطية يملأ الشاشات والعالم المادي سواء بسواء. الفريد في تلك الحملة أن محركها لا تمسك به يد المؤسسات السياسية بالضرورة ولا التحالفات الأهلية المناهضة للحرب، بل موزع بين أقسام التسويق والعلاقات العامة في الشركات الكبرى والمصارف. وقبل الجميع، أرسل لي المصرفات اللذان أتعامل معهما، في التوقيت نفسه تقريباً، رسالتين لحثي على التبرّع لصالح جهود الإغاثة في أوكرانيا. جاءت واحدة من الرسائل ممهورة بكلمة من مجلس الإدارة ومرفقة ببيان عن المبلغ الذي تبرع به المصرف لصالح أوكرانيا. بعدها تتابعت الإشعارات من التطبيقات الرقمية واحداً بعد الآخر، واكتفى تطبيق "دوولينغو" بكلمة موجزة للتضامن. بعض المجالس المحلية في بريطانيا صبغ الموقع الرسمي بألوان العلم الأوكراني، عدد من تطبيقات المواعدة أتاح إمكانية إضافة "فلتر" بالألوان نفسها في صورة الحساب.
الأكثر إلحاحاً كانت ماكينات الخدمة الذاتية في مراكز التسوق، فكل مرة عند الدفع، يظهر العرض بالتبرع للصليب الأحمر الأوكراني. وعلى المرء في كل مرة أن يضغط "لا" المخلوطة بالشعور بالذنب، إن كان لا ينوي المساهمة. بحلول الشهر الثاني من العدوان الروسي، كانت السينما الأقرب في الحي قد وضعت بجوار بوابة الخروج صندوقاً صغيراً عليه العلم الأوكراني. وأمامها في الجهة الأخرى من الشارع الرئيسي، كانت حانة جل روادها من طلبة جامعة "غولد سميث" القريبة، قد رفعت علماً باللونين الأزرق والأصفر إلى جانب علم "الرينبو".
بدت الحملة الهابطة من عالم الأعمال كأنها موجهة إليّ أو ضد المواطن الصغير. الحرب والتضامن والإغاثة وغيرها من شؤون السياسة الدولية هي مهمة الفرد المحاصر بدعوات المساعدة اللجوجة، الإحساس بالعجز الفردي وصدمة عودة الحرب إلى أوروبا، يمكن إخماده بتحويل مالي متواضع أو إشهار بصري حسن النية. أما البيزنس ففي توليه دور الوسيط الأخلاقي لعملية التحويلات، ينجح في توظيف الحرب في حملة شبه مجانية للدعاية الذاتية.
هل تستعرض ملصقات "بيكهام" وجوه ضحايا الحرب الأوكرانية؟ وبهذا هل ترغب في التماهي مع حملة التضامن الاستهلاكية أم معارضتها؟ فإن كان هؤلاء ضحايا أوكرانيين فعلاً، فلمَن يقفون كدروع بشرية؟ بين مَن ومَن؟ هل هم ضحايا بوتين فقط أم الغرب أيضاً؟ وهل تكفي التبرعات إذاً؟
في اليومين الأخيرين، ظهرت ملصقات صغيرة بيضاء اللون مثبتة في الركن السفلي لبعض الصور. يحمل الملصق اسم الضحية، تاريخ مقتله/ها ومكانه، وعليها جمعياً عبارة: "أطلق عليه الجنود الروس الرصاص". لا يمكن الجزم إن كانت الملصقات الجديدة جزءاً من العمل، أو تفاعلاً مع الجمهور. فهل ذلك التفسير من قبل الفنان/ة لحل لغز الأيقونات السهل؟ أم هي مداخلة من أحد المارة؟ وإن كانت الأخيرة، فما المقصود من تلك المداخلة. التأكيد على أن الروس هم من أطلق الرصاص؟ هل نلوم من أطلق الرصاص فقط؟ أم أيضاً من يختبئ خلف الضحايا؟ وبهذا هل على العابرين أن يلوموا أنفسهم؟ أم المقصود أن جميعنا يمكن أن نغدو دروعاً بشرية؟
أمس، مررت ببعض الملصقات في طريق العودة إلى البيت، وكان من الواضح أن البعض حاول نزع بعضها، وإن لم ينجح تماماً.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها