الأربعاء 2022/12/28

آخر تحديث: 14:28 (بيروت)

وفاة المستعرب أندريه ميكيل..مترجم "الليالي" وسجين النظام الناصري

الأربعاء 2022/12/28
وفاة المستعرب أندريه ميكيل..مترجم "الليالي" وسجين النظام الناصري
أندريه ميكيل
increase حجم الخط decrease
  كتب الروائي اليمني علي المقري في فايسبوكه: "وفاة أندريه ميكيل، كبير المستعربين الفرنسيين وصديق الثقافة العربية الحميم. ارتبط اسمه بترجمة متميّزة لكتاب "ألف ليلة وليلة" والتي أنجزها مع جمال الدين بن الشيخ، إلى جانب الكثير من ترجماته ودراساته في أدب العرب وتاريخهم وجغرافيتهم. كان شديد الصلة بكل ما هو عربي، حتى إن أقرباءه، حسب كاظم جهاد، حين كانوا يتحدثون معه عن العرب يقولون له: "عَربُكَ...". خسارة كبيرة أن يرحل هذا الاسم المهم في الثقافة العربية في وقت صارت فيه بلدان هذه الثقافة تفتقد إلى عافيتها وقدرتها على الاحتفاء بأصدقائها".

  أندريه ميكيل من رعيل العلماء الغربيين الكبار الذين تبحّروا في اللغة العربية، وكرّسوا حياتهم وأبحاثهم للكشف عن كنوز تراثها، ولد في جنوب فرنسا عام 1929، وأتم دراسته بمدرسة المعلمين العليا. درس العربية على يد المستعرب ريجيس بلاشير، وعمل عقب تخرجه في دمشق وبيروت في المعهد الفرنسي للدراسات العربية، ثم عمل في إثيوبيا فترة عامين في أواسط الخمسينيات.

 ظهر أوّل شغف له في العالم العربي في عام 1946، إثر رحلة قام بها إلى شمال إفريقيا حين كان طالبًا. اكتشف الضفة الجنوبية للمتوسط من خلال محطات عديدة، قادته من تونس إلى الجزائر ثم الرباط ومراكش. يقول في مقابلة مع "مغازين ليترير": "حدث في خان Khëgne، بمونبيلييه، بعد أن قرأت في سن الثامنة عشرعاما ترجمة للقرآن، قام بها ‘سفاري’ Savary، أغوتني هذه الترجمة. فاهتممت بها واقعيا، ولكنها كانت أيضا طريقة بالنسبة لي كي أتميز بها عن الآخرين. كل واحد يبحث عن أن يظهر بمظهر ما، تفردٌ فيه شيءٌ من التفاخرية بالنسبة لي أنا كانت النزعة الاستشراقية هي القضية. وكي أكون دقيقا يجب القول بأنه قبل هذا التاريخ، في سنة 1946 بالثانوية حصلت على الجائزة الثانية للمباراة العامة للجغرافيا: ثمنها السفر إلى المغرب العربي، الذي ترك عندي عبر المناظر الخلابة لتونس، الجزائر، المغرب انطباعات قوية"... ويقول في مقابلة مع المعطي قبال في "العربي الجديد": "كنت أستعد لمسابقة الدخول إلى "مدرسة المعلمين"، تملكتني رغبة جارفة لتعميق هذا "الاحتكاك" مع العالم العربي، والغوص في مجتمعاته.
وبناءً على ذلك، اقتنيتُ نسخة من القرآن الكريم، مترجمة إلى اللغة الفرنسية. وهي الترجمة التي أنجزها كلود إتيان سافاري.
عندما شرعت بقراءة النص القرآني، انجذبتُ إلى الآيات الأولى، إلى قوّتها الرمزية والإيحائية. بعد ذلك، سجّل مساري صوب العالم العربي،"انقطاعًا" أو فاصلًا طويلًا من الدراسة والبحث، قادني إلى المدرسة العليا للأستذة، École normale supérieure، ثم التحقت ببرنامج المبرّزين باللغة العربية رغم أني لم أكن مستعدًا لذلك حقًا. ومن ثمّ ترددت في الاختيار بين التدريس في الجامعة أو الدخول في السلك الدبلوماسي. ثم سافرت إلى دمشق، حيث عشت تجربة مميزة لمدة عام".

في دمشق، هيّأ أطروحة دكتوراه تكميلية. وبناءً على نصيحة من المستعرب ريجيس بلاشير، الذي أنجز إحدى الترجمات المرجعية للقرآن الكريم، وبدأ بترجمة كتاب "كليلة ودمنة" لابن المقفع إلى اللغة الفرنسية. يقول "في دمشق انتفض تاريخ بأكمله أمام عيني، التاريخ باعتباره محصلة إنتاج ثقافي ومعرفي"، وسرعان ما انتقل إلى مصر، وسقط ضحية ما يسميه "جنون عظمة" النظام الناصري الذي كان بحسّه العروبي يخاف الثقافة والمثقفين ويشكّ فيهما. كان ميكيل قد وصل إلى مصر لتحضير أطروحة دكتوراه دولة عن "السينما والأدب في مصر المعاصرة"، وكان أيضًا مبعوثًا من وزارة الخارجية الفرنسية لمهمة ثقافية. وبعد شهرين على وصوله وتحديدًا في يناير/ كانون الثاني ١٩٦١، اعتقلته المخابرات المصرية ووجهت إليه تهمة "التآمر ضدّ نظام جمال عبد الناصر". يقول في مقابلة مع مجلة "مغازين ليترير" "لقد جئت في أيلول/ سبتمبر 1961، وفي شهر تشرين الثاني/ نوفمبر تم استدعائي من طرف الشرطة. وجدت نفسي صحبة فرنسيين في قبضة المصالح المختصة. تم اتهامنا بالتجسس لا فائدة من القول بأن الاتهام لم يكن له أي معنى. لقد قضيت أربعاً وعشرين ساعة معصوب العينين بدون أن أعرف أين أنا ولا ماذا سيفعلون بي. فالاستنطاقات لنقل ذلك كانت "عضلية" استغرقت عشرات الأيام، وبعد ذلك كان انتظار المحاكمة سجنت لمدة خمسة أشهر. من تشرين الثاني/نوفمبر 1961 إلى نيسان/ أبريل 1962 خمسة أشهر لم تتمكن من خلالها الدولة الفرنسية من إخراجنا من هذه الورطة. لكن في غضون ذلك، انتهت الحرب في الجزائر، ودشن أفق اتفاقات افيان Evian علاقات جديدة مع الدول العربية. أخيرا، أوقف ناصر المحاكمة وتم إرجاعي إلى الوطن. لم تطلب فرنسا ولو مجرد حتى إصلاحات معينة لجبر الضرر عندما أعيدت العلاقات الدبلوماسية إلى مجراها". وبفضل إجادة ميكيل للغة العربية فلقد استطاع قراءة المكتوب على حوائط زنزانته بواسطة السجناء الذين سبقوه إلى الإقامة فيها، وفي الغالب الأعم منها، كانت نصوصًا من القرآن الكريم تساعد كاتبيها في التهوين عليهم من مشقة السجن ووطأته، كنوع من أنواع العزاء والسلوان. أما عن كيفية قضاء ميكيل وقته داخل الزنزانة، يحكي أنه اصطحب معه نسخة من الكتاب المقدس، ونسخة من القرآن الكريم كان يشغل وقته في قراءتهما، كما كان يُقسِّم وقته ما بين الرياضة والنوم والقراءة ودراسة اللغة العربية. كما شغل ميكيل نفسه كثيرًا بالاطلاع على أعمال عمالقة الأدب العالمي، معتبرًا أن القراءة في السجن أتاحت له «تأسيس بنيان عقلي متوازن»؛ فقرأ رواية دون كيشوت Don Quixote التي وصفها بأنها «كاتب معطاء وثري وإنساني وأوروبي وحديث، لكنه ممل»، وقرأ لأونوريه دي بلزاك Honoré de Balzac «العملاق الذي لا مثيل له»، كما اطّلع على الأعمال الكاملة لتوفيق الحكيم وعلى ثلاثية نجيب محفوظ الذي سيترجم بعض أعماله بعد خروجه من محبسه إلى الفرنسية وسيدعم ترشحه إلى جائزة نوبل للآداب.

 أبعده نظام عبد الناصر عن مصر، عبر إلصاقه يافطة "جاسوس" على سيرته. وبناءً عليه، غيّر خطته بالكامل. وهي التجربة القاسية التي كتب عنها ميكيل ضمن سيرته الذاتية التي صدرت بعنوان "وجبة المساء"...

واصل ميكيل عمله وشغفه بالعربية، تولى تدريس الأدب العربي في الجامعات الفرنسية منذ سنة 1968. عمل في جامعة فانسان، وجامعة السوربون الجديدة، ثم شغل منصب مدير معهد لغات الهند والشرق وشمال إفريقيا وحضاراتها في جامعة باريس الثالثة قبل أن يُنتخب أستاذًا لكرسي الأدب العربي في الكوليج دي فرانس عام 1975.
وفي 1984 اختير ميكيل مديرًا للمكتبة الوطنية في باريس، وكانت المرة الأولى التي يُختار فيها أحد المتخصصين في الدراسات العربية والإسلامية لهذا المنصب الرفيع. ثم عاد ميكيل عام 1986 إلى الكوليج دي فرانس، واختير سنة 1989 رئيسًا لها، وواصل خلال هذه الرحلة العلمية عطاءاته المتّصلة في مجال الأدب العربي بترجماته المتخصصة إلى الفرنسية والمقدمة للمثقف العام، أو بإلقائه للمحاضرات في الجامعات العربية بلغة عربية دقيقة، وبإشرافه على الرسائل العلمية للدارسين العرب في الجامعات الفرنسية. موقفه المؤيد والمتحيز للقضايا العربية، وبالأخص المسألة الفلسطينية، أصابه بسهام الإقصاء الفرنسي منذ ثمانينيات القرن الفائت، مع الصعود التدريجي وتنامي دور اللوبي الصهيوني في وسائط الإعلام وكذا في الأوساط الأكاديمية الفرنسية. 

كتب أندري ميكيل عن أدب العشق واهتم بشكل خاص بمجنون ليلى. ترجم أشعاره وحلل شخصيته كظاهرة، وقارنها بما يقابلها في الأدب الفرنسي. عمل على الارتقاء بقصة مجنون ليلى إلى مصاف العشق الروحي، وجعلها بذرة أولى لحركة التصوّف التي ستظهر في القرن الثالث للهجرة، في شكل نزعات فردية تدعو إلى الزهد ثم ستتحوّل بعدئذ إلى طرق تنتشر في مختلف أصقاع البلاد الإسلامية. 

إلى جانب أعماله المعروفة والغزيرة في الشّعر العربيّ القديم والحكايات العربية، وعلى رأسها "ألف ليلة وليلة"، وفي ميادين أخرى للتّرجمة والبحث، قدم للمكتبة العالمية كتاب المقدسي "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" ومختارات من الشعر العربي. لكن أهم أعماله هو كتابُه الموسوعي عن "جغرافية دار الإسلام البشرية"، وكتابه "الإسلام وحضارته".
عندما شرع بتأليف "جغرافية دار الإسلام البشرية" وضع أمامه هدفاً، وهو تناوُل نصوص هذه الجغرافية ليس باعتبارها شواهد على الواقع التاريخي الموضوعي، بل إحياءُ عالم مُتخيَّل كوَّنته ضمائر البشر آنذاك، وأدركته وتخيلته. وسؤاله الأهم: ماذا كان يعني البحر، والنهر، والمدينة، والضريبة والحدود، من وجهة نظر مسلم عاش قبل ألف عام وتصوره.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها