الثلاثاء 2022/01/25

آخر تحديث: 13:39 (بيروت)

شخوص فاطمة مرتضى... الأساطير تترك ذكريات أفضل من التاريخ

الثلاثاء 2022/01/25
increase حجم الخط decrease
مَن يعرف فاطمة مرتضى جيّداً، يدرك أنها مولعة بما هو خارج عن المألوف، وذلك من نواح عديدة. ثمة أساليب تُتّبع في التعامل مع أمور الحياة في كل حين، وفي كل مناسبة. تلك حالنا جميعاً، إذ نختار ما نراه مناسباً لنا، أو ما يتناسب مع قناعاتنا. لكن طبيعة الخيارات لا تخضع للنواميس نفسها، إذ تلتصق بالذات دون سواها أحياناً، من دون الأخذ في الإعتبار آراء الآخرين، إلاّ في شكل نسبي. أمّا في أحيان أخرى، فيحسب الفرد حسابات كثيرة كي لا يقع في "المحظور"، وهذا المحظور هو أيضاً، في حد ذاته، نسبي، معقّد، وشديد التفاوت بين مكان وآخر.

فاطمة مرتضى، التي نشهد في اللحظة الحاضرة معرضها لدى LT gallery، تنتمي إلى الفئة الأولى. لا تقبل المساومة حين يتعلّق الأمر بآرائها الخاصة. تأثّرت بالمشهد الفنّي المعاصر، الذي تعرّفت إليه وعاشته خلال دراستها في المملكة المتحدة، وانعكس ذلك حرّية في الرأي، وتجارب جريئة في التشكيل في ما يختص بالتقنيات والتنوّع في إستخدام المواد من دون وجل، وما يلتصق بذلك من ولوج إلى موضوعات لا متسع فيها للمنطق العادي. أحد تلك الموضوعات، ثيمة الأساطير، التي يفرد محتواها مكاناً رحباً للخيال، وتنزع تفاصيلها نحو غرابة قد لا تروق للبعض، علماً أننا محاطون بأساطير ذات منحى عقائدي، تتّبعها الخليقة من دون أن تتساءل يوماً عن درجة صحتها، أو إنسجامها مع الواقع.

"الأساطير تترك ذكريات أفضل من التاريخ! لهذا السبب نصنع الأساطير بدلاً من إخبار الحقائق"، قال فيفيك تيواري (مدير المبيعات لدى "آبل"، وهو هندي الجنسيّة، وقتل خطأً برصاص الشرطة في مدينة لوكنو). أضف إلى ذلك، أن الأساطير تخلق صوراً مثيرة، وعوالم غرائبية قد لا تنفتح أبوابها إلاّ للمجانين والأطفال (القول للوسي شينو). تحاول فاطمة مرتضى أن تخلق شخصيّات في لوحاتها ينطبق عليها بعض هذه الصفات. خيارات من هذا الصنف هي مسألة نظر ذاتيّة، تمثلت لدى فاطمة أجساداً إنسانية تمتلك رؤوساً حيوانية. تاريخ الأساطير التي وصلت إلينا من الحضارات القديمة يعج بالأمثلة، سواء من الناحية التصويرية، أو من خلال التجسيد النحتي.

الطريق الواصلة بين معبَدَي الكرنك والأقصر المصريين محاطة بتماثيل من هذا النوع، ناهيك بما تركه لنا السومريون، والبابليون من بعدهم. لم يترك الأقدمون حيزاً إلاّ ونصّبوا عليه إلهاً، وصنعوا له صورة أو تمثالاً. الشيء الأساسي في أي أسطورة ليس أن تكون صحيحة أو خاطئة، أو دقة "الحقائق" التي يتم الإبلاغ عنها، بل المهم أن القصة يمكن أن تتغير في مرحلة ما لتصبح حقيقية أكثر من الحقيقة نفسها.

تعمل الفنانة في معرضها، الذي إتخذ عنوان: INANNA ASCENDS، على التوصّل إلى فهم حقائقنا اليومية، استناداً إلى عناصر أسطورية. المحاولة تسير في دروب الرمز إلى حد بعيد. إذ من المعروف كم هو الدور الذي تلعبه الأساطير في حياتنا، وفي تحديد بعض أنواع سلوكنا. ما زال الكثيرون منا يؤمنون بالسحر، وهو الحيّز الغامض الذي يمتلك جاذبية وإثارة لا تخفى علينا. قال أحدهم: السحر عالم حي. وحده خيال الأطفال قادر على الإحاطة بإتساعه. الفكرة تحمل كمّاً وافياً من الصحة، فنحن كبالغين يكبّلنا المنطق ويقيّدنا العِلم. لقد قام الكبار بخلق الجن من أجل التغلّب على سحر الأمكنة. الفنّان يفضّل الأسطورة التي تسمح له بإعادة إكتشاف ما يحيط به، وهو عالِم بأن الوقت لا يمكن أن يدمّر الحقيقة، لكنه يخفيها فقط من خلال الأساطير.

أتت شخوص فاطمة مرتضى على نحو إفرادي، مستقلّة في ذاتها ضمن القماشة، على خلفيّة محايدة، وفي أوضاع مختلفة. الحركة تغيب، إلى حد ما، عن "الجدّة" التي فقدت إحدى عينيها، وظهر عمودها الفقري كما في صور الأشعة الطبيّة، إضافة إلى يديها العظميتين. تظهر الحركة في معظم الأعمال الأخرى، المتفاوتة بين ما يشبه رقصات لشعوب الشرق، القريب منه أو البعيد، وما يشبه الإستعراض المكابر، أو الإسترخاء على بساط طائر. أوضاع إرتكزت على قرارت ذاتية، تحدّرت بدورها من سعي لإخراج الصراعات التي تشغل ذهن الفنّانة، وتوقد عالمها في آتون محيط مشتعل. الشخوص التي تجمع بين تكوينين بيولوجيين اثنين، ما هو سوى ربط للخيط بين كائنات تقع في دائرة التأثر المتبادل، والمقارنة الميثولوجية، التي سطّرتها شعوب وقبائل وإثنيات على مر الزمن. ومن ضمن هذا البعد التكويني، تنقل فاطمة ما تعتبره السمات الأساسية للإناث، كالخلق والسيولة والتغيير المستمر، والذكاء العاطفي.

في ما يختص بالإخراج التشكيلي، لم تُصنع القامات من طينة واحدة، أو حتى من قماشة واحدة. مدخل ذاتي مرة أخرى، يُضفي على الشخوص نمطاً فسيفسائياً يجمع بين الغرافيكية واللون، علماً أن النمط الأول يكون في أكثر الأحيان طاغياً، بل رئيساً، ويدخل فيه إستخدام وسائل وأدوات رسم عديدة ومختلفة. أمّا في ما يختص بالبُعد الماورائي المرتبط مع المخرج التشكيلي، فتقول الفنّانة: "أستلهم من الأساطير اليونانية (أراكني وبينيلوب)، والمصرية القديمة (إيزيس)، ومن الأميركيين الأصليين نافاجو الجدة العنكبوت، النماذج الأنثوية للخلق والسحر، حيث كان العالم الضعيف للإله الذكر ثابتًا دائمًا بفضل خيوط الأنثى. لكن الانتقال من سطر إلى خيط في أعمالي ليس عملاً عشوائيًا. في الواقع، إنه انتقال يتناغم مع رغبتي في نقل فني من الخط التجريدي في الرسم إلى عنصر حسي يمكن ملاحظته بشكل ملموس، أي أن أنقل نفسي من التفكير إلى الفعل".

نهاية، يبقى أن نقول أن المهم هو الأساس الذي تم البناء عليه، إذ "لا يوجد أساس عظيم لا يرتكز على أسطورة. الجاني الوحيد في مثل هذه الحالة هو الإنسانية التي تريد أن تنخدع"، بحسب إرنست رينان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها