الإثنين 2021/07/12

آخر تحديث: 14:25 (بيروت)

عودة داهش

الإثنين 2021/07/12
عودة داهش
"الساحر" سليم العشي، الذي عرف باسم "داهش" وأذهل لبنان والجوار بـ"غرائبه"
increase حجم الخط decrease
صدر عن دار العين في القاهرة، كتاب "رابطة كارهي سليم العشي" لسامح الجباس. 
وجاء في تعريف الكتاب: نُشر في مجلة الصرخة، عدد مارس 1931، الصفحة رقم 24: "وصل إلى مصر الدكتور داهش المنوم المغناطيسي والعالم الروحاني وهو الذي أدهش العلماء بواسطة وسيطته المدموازيل "انطوانيت"، يقرأ أفكار الناس – ويعلم ما يجول بخاطرهم، ويقرأ الخطابات المقفلة ويخبرهم عن أحوال الغائبين والتائهين وعن أحوال التجارة والزواج والسفر ونتائج القضايا، سواء عن الماضي والحاضر والمستقبل، كل ذلك ببراهين علمية ثابتة. شهد بمقدرته العلمية أكبر معهد للتنويم المغناطيسي في باريس وجمعية المباحث النفسية الفرنسية والعظماء والكبراء يقابل زائريه في لوكاندة غلوريا بشارع عماد الدين".

هكذا تحكي رواية سامح الجباس الأحدث، "رابطة كارهي سليم العشي"(*)، عن الدكتور داهش، اسم الشهرة لسليم العشي. كيف بدأ حياته كمنوم مغناطيسي وساحر شاب يأتي في الحفلات الليلة بالفنادق حتى ظهوره كمؤسس عقيدة سُميت بالعقيدة الداهشية، آمن بها أتباع ومريدون من الوسط الثقافي والفني اللبناني والمصري.
 
يتعمق الجباس في أعماق الحكاية، ينتقل لبيروت ليعيش هناك بالقرب من بيت داهش في زقاق البلاط ليتتبع سيرة أغرب كاتب ومؤدٍّ عربي، ويحاول حل لغز من تأثروا به، من نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف أدريس ويوسف وهبي والفنانة اللبنانية ماري حداد والشاعر اللبناني حليم دموس وغيرهم الكثير. في العام 1977 نشر نجيب محفوظ مجموعته القصصية "الحب فوق هضبة الهرم"، ويلاحظ الجباس قصة عنوانها "السماء السابعة"، لجهة تأثر مضمونها بفكرة داهش عن "التقمص"، وهي تقع في صلب ما يؤمن به "الداهشيون". ويربط الجباس بين قيام سليم العشي بجولة على عدد من الدول، بينها مصر، في العام 1971، ونَشْرِ نجيب محفوظ في العام نفسه قصة "حكاية بلا بداية ولا نهاية"، وتدور حول شبان يتمردون على تقاليد إحدى الطرق الصوفية، ويواجهون شيخها.

ثم يسأل: هل تتحدث تلك القصة - مواربةً – عن تمرد "داهش" وتابعيه على التقاليد الكنسية؟ وفي العام 1977، نشر محفوظ "ملحمة الحرافيش"، ولاحظ الجباس أن بين شخصياتها "شخصية غريبة جدًا على عالمه"؛ واستنتج السارد أن نجيب محفوظ كتب تلك الحكاية متأثرًا بأفكار داهش. أما سلسلة مقالات توفيق الحكيم في جريدة "الأهرام" العام 1983 والتي بدأها تحت عنوان "حديث مع الله"، فقد أثارت ضجة، واضطر إلى تغيير العنوان في بقية السلسلة، ويربطها الجباس بزيارة داهش إلى مصر في العام 1981.

ثم تبين للجباس أن الكاتب المصري أحمد أمين، كان قد سبق توفيق الحكيم في التأثر بأفكار داعش، وتجلى ذلك في مقال بعنوان "الدنيا رواية" نشره في العام 1954، أي بعد نحو 12 عامًا على إعلان "الرسالة الداهشية". ثم تبيَّن له أن توفيق الحكيم تأثر بكتابَي "نشيد الإنشاد" الذي نشره داهش في 1934، فيما حمل كتاب للحكيم العنوان نفسه، ونشر في 1940...

وليست المرة الأولى التي يتم فيها التطرق الى علاقة داهش بالكتّاب أو المثقفين، ويتجلى ذلك من خلال بعض الإصدارات، ففي كتابات المثقفين والصحافيين يبدو حاضراً بقوة، إذ قام بـ"خوارق" أمام كثر كانوا على مستوى سياسي واجتماعي وعلمي كبير، كالعلامة الشيخ عبد الله العلايلي مؤلف "كيف عرفت داهش" الصادر عن "دار النسر المحلق". أو الكاتب ووزير الثقافة ورئيس مجلس الشيوخ المصري، الراحل الدكتور محمد حسين هيكل، مؤلف كتاب "محمد" والمعروف بعلاقات "بريدية" كانت له مع داهش، عبر رسائل متبادلة، جُمعت بعد وفاته في كتاب. كذلك الصحافي المصري لطفي رضوان، رئيس تحرير مجلة "المصور" في أوائل الستينات في القاهرة، والذي اندهش بالراحل بعد ثلاث مقابلات حملته على وضع "خوارق ومعجزات الدكتور داهش" في كتاب تضمن أسماء ما زال بعض أصحابها حياً، كالصحافي وليد عوض رئيس تحرير مجلة "الأفكار" الأسبوعية اللبنانية.

وساهم اثنان من أبرز المثقفين العرب في الجدال حول داهش، بطريقة غير مقصودة، عندما ظهر "الساحر" في مذكرات كلّ من الراحلين جبرا إبراهيم جبرا وهشام شرابي. في سيرته الذاتية الصادرة بعنوان "البئر الأولى"، يوضح جبرا في سيرته: "كان في تلك الأيام أن سمعت الكبار يتحدثون عن سليم العشي (صديق أخي الأكبر مراد حينئذ)، الذي يعمل مؤجراً ومصلحاً للدراجات في دكان صغير في ساحة باب الدير، وقد جعلوا يسمونه بسليم الساحر، بسبب الحيل المدهشة التي كان يقوم بها في السهرات لإمتاع شيوخ البلدة، وقد رأيته فتى قصير القامة، له وجه ضامر لا يبتسم، تشع منه عينان واسعتان مذهلتان". ويضع جبرا حاشية في الكتاب تقول: "سرعان ما تحول هذا الشاب، الذي علّم نفسه بنفسه، إلى أسطورة بما يقوم به من «خوارق التنويم» المغناطيسي واستحضار الأرواح بواسطة أخته، وذلك بعد رحيله إلى القدس، ثم إلى بيروت، حيث دعا نفسه داهش بك ثم الدكتور داهش وأسس طريقة عرفت بالداهشية".

ويشير شرابي في سيرته التي ظهرت بعنوان "صور الماضي"، إلى أنه كان يتردد على بيت جده في عكا "شاب اسمه داهش بك، اشتهر في الأوساط الاجتماعية بقدرته على التنويم المغناطيسي والتنبؤ بالمستقبل. لم ألتقِ به إلا بعد مدة طويلة من تعرفه إلى بيت جدي، ذلك أنه نادراً ما أتى لزيارتنا خلال الصيف، أي عندما كنت أمضي عطلتي في عكا، لذلك سررت عندما سمعت ذات يوم جدتي تنادي بصوت متهدج: داهش بك قادم، افتحوا الباب".

وداهش في الوجدان الشعبي "حكاية أسطورية" لا تنتهي. يدّّعون أنه أعاد الحياة الى عصافير ماتت، وكتبت مجلة "الحوادث" أن داهش حوّل الورق العادي بين يديه إلى عملة الدولار وإلى الليرة اللبنانية، كما أن الخشب كان ينقلب إلى ذهب أمامه في الحال، وأنه أعاد مرات ومرات خاتماً أو ساعة أو معطفاً ضاع من صاحبه قبل سنوات. أما الرواية التي تناقلها سكان بيروت فهي أنه في العام 1968، دخل داهش يوماً محلاً ليقصّ شعره فوجد زحمةً كبيرة عند الحلّاق وكان يوم سبت. فطلب من الحلّاق أن يقصّ له شعره ليردّ الحلّاق وهو يحدّق في الزبون الجديد: "إذهب ساعة أو ساعتين ثم عدّ لأحلق لك". ويُقال إن داهش فصل رأسه عن جسده وأعطاه للحلّاق موضحاً أنه سيعود لأخذه لاحقاً بعد الإنتهاء. لكن بالتأكيد تبقى هذه القصة ضمن نطاق الروايات.

داهش الذي ولد في بيت لحم في فلسطين، وهو من الطائفة السريانية، وانطلق منها لأنحاء العالم ليعرض مواهبه ويؤثر في الناس بكاريزمته، صار فضيحة للجمهورية اللبنانية في زمن الاستقلال، اضطهده الرئيس اللبناني بشارة الخوري، اذ بدأ يحاربه منذ تسلم السلطة في 1943 وجرده من الجنسية اللبنانية وأمر باعتقاله ثم نفاه 9 سنوات خارج لبنان، لانضمام شقيقة زوجته ماري حداد الى "الحركة الداهشية" هي وزوجها وأولادها، بعد معاينتهم "غرائب" قام بها أمامهم في حضور آخرين، وبسبب ضغوط من رجال دين مسيحيين وجدوا فيه "خارجاً عن الكنيسة" لتشكيكه في رواية الأناجيل عن صلب المسيح.  

هاجر داهش إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث اهتم بنشر آرائه. كما كان مشهوراً بجمع التحف والرسوم الفنية، وأسس "متحف داهش للفنون" في نيويورك. توفي العام 1984، ومان له الكثير من المؤلفات والكتب الأدبية التي تحدثت عن رحلاته ومغامراته، وعقيدته الداهشية التي تؤمن بكل الأديان.

(*) تعود "المدن" إليها في مقال خاص قريباً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها