السبت 2021/06/05

آخر تحديث: 12:37 (بيروت)

"ربيع جديد": كيف ستبعث الانتفاضات؟

السبت 2021/06/05
"ربيع جديد": كيف ستبعث الانتفاضات؟
الانتفاضة اللبنانية(انترنت)
increase حجم الخط decrease
ملاحقة عدّادات الزمن الاحتجاجي في دول المنطقة، مهمة مضنية، إن لم تكن مستحيلة. التأمل في ما حدث، وما كان له أن يحدث، يحتاج إلى مساحة لالتقاط الأنفاس، ومن الصعب الولوج إليها مع تتابع الانتفاضات وتجددها. الموجة الاحتجاجية التي شهدتها المنطقة نهاية 2019 ومطلع العام التالي قاطعها الوباء، لكن ما أُطلق عليه الربيع العربي الثاني، لم يكد يمر على خموده مدة قصيرة، حتى انطلقت ومضة لانتفاضة جديدة في فلسطين، مع استعادة مسيرات الحراك الجزائري لجدولها الأسبوعي، وكذا رجوع الجماهير العراقية إلى ميادينها، وتوازي ذلك مع استفحال للأزمة اقتصادية في كل من لبنان والسودان، بشكل يشير إلى إعادة إنتاج الأزمات بل وتعميقها. فهل يُبعث الربيع الثاني من جديد؟ أم هي موجة ثالثة تتداخل مع سابقتها؟

يبدأ كتاب "ربيع جديد" (2021) من الربيع الأول، لا من باب التسليم بالتبسيطات العددية لتتابع الفصول الثورية، بل لنقد التحليلات التي تناولت ثوراته، كأحداث عفوية لا تاريخية، ترتكز على نظريات الحرمان و"طنجرة الضغط"، ولرفض القراءات الإخبارية المعتمدة على مفردات توازنات القوى الإقليمية وأجندات التدخل الخارجي. في المقابل سعى محرر "ربيع جديد"، اللبناني جاد صعب، مع المساهمين فيه من أعضاء تحالف اشتراكيي الشرق الأوسط، إلى دراسة الفاعلين الداخليين المنخرطين في احتجاجات الربيع الثاني في المنطقة، مع مقاربة تاريخية لها. لكن تلك المعالجة المزدوجة لا تسعى إلى المقارنة بين دولة وأخرى، أو انتفاضة والثانية، بل ركزت على التشابه في مواقع معظم بلاد المنطقة، من النظام الرأسمالي العالمي، وفي تشاركها في نظامها الريعي واقتصاد الدولة، وفي الوقت نفسه اعتمد الكتاب الاختلافات بين أنظمة دولة أخرى كمدخل رئيسي لشرح المسارات المختلفة للانتفاضات هناك.

تتعامل مقدمة الكتاب مع مصطلح "المنطقة" كإشكالية من البداية، أي بوصفه تعميماً يفتح مساحة للأخطاء، لكن عنوان الكتاب يحيلنا إلى نطاق جغرافي أكثر اتساعاً، إلى "خريطة انتفاضات شمال أفريقيا وغرب آسيا". فبالإضافة إلى السودان والجزائر والعراق ولبنان، يتم تناول الانتفاضة الإيرانية ما بين نوفمبر 2019 ويناير 2020. وبلا شك فإن التضمين الإيراني يبدو حتمياً أكثر من أي وقت مضى. فإلى جانب التشابهات في دوافع الانتفاضات والمشاركين فيها ووسائلها ونقاط ضعفها، فإن انتفاضات لبنان والعراق، وبالقدر نفسه الاحتجاجات الإيرانية، تَظهر بجلاء موجهة ضد رأسمالية الدولة العسكرية الإيرانية ووضعها كقوة إمبريالية إقليمية ذات طموحات توسعية.

وبإيجاز مكثف، يتتبع الكتاب السياقات التاريخية للانتفاضات، أصولها وسوابقها. فثورة ديسمبر السودانية 2019، تأتي بعد "الديموقراطيات الثلاث" السودانية، وبعد ثورة أكتوبر 1964، وانتفاضة 1985، وسلسلة من الاحتجاجات بدأت في 2011 وامتدت حتى 2013، ثم تكررت على مدى ست سنوات حتى اندلاع الثورة. الأمر نفسه ينطبق على الجزائر، فرغم الاستعمار والطبيعة المسلحة للنضال الجزائري ضده، جعل القوة المنظمة الوحيدة في المجتمع هو جيش التحرير، وفرض هيمنة للعسكري على إمكانات السياسة الديموقراطية. فالجزائر شهدت ربيعها الخاص قبل الجميع، في انتفاضة الشباب العام 1988. ومن قبلها كان الربيع الأمازيغي في العام 1980. وكانت تظاهرات فبراير 2019، والتي انتهت باستقالة بوتفليقة، امتداداً لاحتجاجات متتابعة بدأت في 2011 واستمرت بشكل متقطع لعقد كامل. وفي العراق ما يطلق عليه ثورة تشرين أو حركة تشرين 2019، ويعود إلى احتجاجات البصرة 2015، والتي تبعتها سلسلة من الاحتجاجات استمرت بلا توقف حتى العام 2018، وكان ذلك كله دليلاً على تحول جذري من سياسات الهوية الطائفية، إلى الاحتجاجات المطلبية. وبالشكل نفسه في لبنان، من ثورة الأرز في 2005 إلى تظاهرات "طلعت ريحتكن" في 2015 وما بعدها. وكذلك في إيران، جاءت الحركة الخضراء في 2009، واحتجاجات 2017 غير المسبوقة في حجمها منذ الثورة الإيرانية، ومن بعدها احتجاجات يناير 2018. وفي وضع كل تلك الأحداث في تسلسل زمني، تتضح طبيعتها كصيرورة تاريخية مستمرة، مرتبطة بمشاكل هيكلية في بنى الأنظمة الحاكمة وتحولاتها، لا مجرد انفجارات عفوية.

ورغم حصاد سقوط البشير في السودان، وبوتفليقة في الجزائر، وحكومتي عادي عبد المهدي في العراق والحريري في لبنان، فإن "ربيعاً جديداً" يكشف العيوب الجوهرية في تلك الموجة من الانتفاضات، والتي تتشابه مع سابقاتها في الكثير، لكنها تبدو وقد راكمت بعض الخبرات والتكتيكات بشكل سمح أحياناً، وفي حالات بعينها، بتفادي أخطاء الماضي، أو على الأقل توقعها. فمعظم المطالب ظلت سلبية، رفض الأنظمة القائمة من دون تقديم بدائل سياسية، بل وأوغلت في نفي السياسية عن نفسها، والمطالبة بحكومات "تقنية"، وكأن المشكلة فنية بالأساس. وباستثناء السودان، فإن الانتفاضات اعتمدت على بنى لا مركزية وغير تراتبية للحشد والتنظيم والحركة، ولفظت أي تحرك للحديث باسمها، رافضة فكرة التمثيل أو التفاوض بالنيابة معظم الوقت، وبشكل كبير ظلت معتمدة على التواصل والحشد الرقمي، وهو ما كان أحد وجوه هشاشتها. ويذهب الكتاب إلى أن "قوى المقاومة سُحقت سلفاً، وكانت الحراكات بقايا لهياكل سابقة أو أخرى جديدة لم تتطور بعد".

ومع تلك النبرة المتشائمة، يبدو المساهمون في الكتاب واثقين بأن تلك ليست نهاية المطاف، فبقرب خاتمة الفصل المخصص للبنان، يُطرح السؤال بصورة ملحة عن "أي شكل ستتخذه الانتفاضة حين تنبعث من جديد؟"..

لا يذهب الكتاب إلى تحليلات تفصيلية لانتفاضاته، وكذا تفاوتت فصوله في عمقها ودرجة وضوحها، لكن الكتاب ينجح في الوفاء بوعده المتضمن في عنوانه، بتقديمه "خريطة" أو مخططاً للربيع الجديد، الذي أصبح قديماً بعد عام واحد فقط. مخطط يسمح لنا بمحاولة الإلمام بأهم الأحداث وأصولها وسياقاتها والفاعلين فيها، والتقاطعات بين هذا كله، مع قناعة بسيطة بأن هناك ما يمكن لنا تعلمه من كل جولة، وأن هناك جولات مقبلة بلا شك. 

(*) "ربيع جديد: خريطة انتفاضات شمال أفريقيا وغرب آسيا" من إصدار دار صفصافة في القاهرة (2021).
تحرير: جاد صعب، وترجمة: مروة الشريف وغسان بن خليفة
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها