السبت 2021/05/29

آخر تحديث: 12:17 (بيروت)

لقاحات ومؤامرات وقصائد: البلاغة الدوائية

السبت 2021/05/29
لقاحات ومؤامرات وقصائد: البلاغة الدوائية
طب وسِحر (غيتي)
increase حجم الخط decrease
يمكن فصفصة مقاطع كلمة "استرازينيكا" كتالي: "استرا" اسم سنسكريتي لسلاح خارق في الميثولوجيا الهندوسية، تستخدمه الآلهة، والبشر أيضاً لطالما عرفوا المانترا الخاصة به لتوجيهه وإطلاقه، أما كلمة "زي" فتعنى في البولندية "الذي"، وأخيراً فمقطع "نيكا" مشتق من الفعل اللاتيني "نيكار" بمعنى يقتل. وبوضع تلك المقاطع، الواحد إلى جانب الآخر، فمعنى اسم اللقاح البريطاني هو "السلاح الذي يقتل". لبضعة أيام انتشر ذلك التفسير في وسائل التواصل الاجتماعي الإنكليزية، مع تحذير من الإقبال على لقاحات الكورونا، فهي قاتلة.

وككل نظرية مؤامرة، فإن عناصرها المفردة معظمها صحيح. وككل تفسير تآمري، يحتاج الكثير أو القليل من المعرفة، وجهد مبذول في عمليات التبادل والتوافيق الذكية والحاذقة. لكنها أيضاً وكالعادة، انتقائية، بشكل نصف عشوائي ونصف متعمّد. ما يثبته أصحاب نظرية المؤامرة في كل مرة، هو أن لكل شيء معنى، وأعمق مما يبدو على السطح، وفي هذه الحالة، الكلمات أكثر من مجرد لافتات، بل تحوى قوة ما ورسالة متضمنة، غامضة وسحرية. وهم محقون في هذا، إلى حد كبير.

تأسست شركة "استرازينيكا" في العام 1999، بعد اندماج شركة الأدوية البريطانية "استرا" والشركة السويدية "زينيكا". تعنى "استرا" النجم في اليونانية، أما "زينيكا" فاسم مخترع تم توليفه بواسطة وكالة متخصصة لتصميم الأسماء الدوائية، وذلك بالمواصفات التالية: أن يبدأ الاسم بأول حروف الهجاء أو آخرها، وألا تزيد عدد حروفه المتحركة عن ثلاثة، وأن يكون وقع الاسم جذاباً وسهل التذكر. يعكس الاسم، بمقطعيه، منطقين لبُنية اللغة الدوائية (أو اللغة عموماً)، وهما ينتميان إلى زمنين مختلفين لكنهما متعايشان. فاليونانية، ومن بعدها اللاتينية، كانتا لغتا العلوم الأوروبية، كما كانتا لغة الطقوس الروحية والنصوص المقدسة المستغلقة على العامة. وفي ذلك الإبهام الواقف على الحدود بين العلمي والروحي، وفي منتصف الطريق بين الكيميائي والخيمائي، تكمن سحريتها. وفي المقابل، ينتمي "زينيكا" إلى منطق لغة الدعاية الجماهيرية، الحديثة وما بعد الحديثة، حيث يمكن تخليق الكلمات ككل شيء آخر، وبمواصفات مسبقة، ولأغراض لا تتعلق بالمعنى، ولا حتى الدلالة أو الرمز بالضرورة، بل بالتأثير والإيحاء والوقع الحسي، الشكل أو الصوت الخام، بغرض التسويق، الإغواء أو الإقناع.

تحمل المنتجات الدوائية ثلاثة أنواع من الأسماء، أو يمكننا القول ثلاثة مستويات منها. الأول، هو التركيب الكيميائي للمادة الفعالة، سلسلة من الاختصارات تتكون من حروف وأرقام، في العادة تكون طويلة، ولا تخبرنا بشيء عن المادة بوصفها دواء، فقط تكتفي بتركيبها الداخلي.

أما الثاني، فهو الاسم الطبي، ويتكون من عدد من المقاطع الصوتية ذات الأصول اللاتينية واليونانية في معظمها، ويشير كل منها إلى فعالية الدواء ومكان تأثيره وطريقة عمله، تلك التركيبة الشفرية يمكن فهمها من دون جهد كبير بواسطة المتخصصين أو حتى أصحاب المعرفة المحدودة، كبطاقة تعريفية تتكون من جملة أو شبه جملة نثرية، تؤدي دوراً مزدوجاً ومتعارضاً، أي وسيلة للتواصل والولوج للبعض وطريقة للتعمية على الآخرين، كأي رطانة مهنية وتخصصية أخرى.

أما الاسم الثالث، فهو الأكثر تحرراً من المحددات العلمية، الاسم التجاري، الذي يعمل عليه لغويون متخصصون في التسويق. على سبيل المثال، صُمم الاسم "فيغارا" ليعكس ذلك الانتصاب القوي والمفاجئ مع الدفقات الغزيرة من الدم. وتم خلط الكلمة الإنكليزية "فيغور" (القوة) مع شلالات "نياغرا"، ليخرج لنا اسم الدواء الأشهر في قرننا. أما "سيلياس"، وهو دواء آخر لعلاج مشاكل الانتصاب، فإن فترة فعاليته التي تستمر يومين بدلاً من ساعات، هي ما أوحت بتخليق اسم، ويوحى جرسه الصوتي بحالة من الانسياب والسلاسة لعلاقة مستمرة ويُعتمد عليها.

الأدوية سلع في السوق، وبروباغندا للدولة أيضاً. أطلق الروس على لقاحهم ضد كورونا اسم "سبوتنيك"، ويحيل الاسم إلى المعجزة السوفياتية في الفضاء، القمر الصناعي الأول الذي تم اطلاقه ليدور حول الأرض. معنى الاسم الأصلي يبدو مشوشاً لغير المتحدثين بالروسية، فهو يعني رفيق الطريق أو الرحلة. ويذهب البعض إلى أن هناك خطأ في الترجمة من قبل الصحافة الأميركية تسبب في سوء فهم، تبناه السوفيات لاحقاً، وأن معنى سبوتنيك هو ببساطة قمر صناعي. لكن، وبغض النظر عن المعنى، يرتكز الاسم الدوائي هنا على طبقات من الإحالات التاريخية، ذات الدلالات البسيطة، التي تسلم واحدة منها للأخرى، موحية باستمرارية مواريث العظمة السوفياتية.

الأكثر بلاغة أو ربما شاعرية هم الكوبيون. فهم من أطلق على واحد من لقاحاتهم ضد كورونا (ما زال تحت الاختبار)، اسم "عبد الله"، عنوان قصيدة ملحمية لخوسيه مارتي، الشاعر الأشهر للبلاد وأحد منظري استقلالها الأوائل. تأثر مارتي بأخبار الثورة العرابية في مصر، وكتب عنها حينها أنها "الحدث الخطير الذي له أن يحرك أوروبا ويهز أفريقيا"، واستكمل مقاله بمشهد مسرحي طويل بين أحمد عرابي والخديوي توفيق، ليكشف عن إعجاب بـ"ثورة الفلاحين" و"روحها المصرية". لاحقاً، وفي منفاه في نيويورك، سينضم إلى حركة الاستقلال الكوبية، وسيكتب ملحمته المعبّرة عن طموحات الاستقلال، وسيكون عبد الله هو بطله الخيالي الذي سيحارب الغزاة دفاعاً عن بلاده النوبة.

على الأغلب لن يعرف أي من متلقي اللقاح عن جنيولوجيا اسمه، أو الكثير عن الثورة العرابية أو النوبة أو علاقة مصر بكل هذا. لكن عبد الله سيحمل للكوبيين دلالة واضحة وبسيطة، استقلال إرادة بلادهم الواقعة تحت الحصار الأميركي الطويل، واكتفاءها الذاتي. بروباغندا في دواء وبلاغة شعرية في حقنة، تذكرنا بتلك العلاقة القديمة بين كلمات التعاويذ المقفاة والطب، والأصول السحرية للكلمات والأسماء. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها