السبت 2021/01/23

آخر تحديث: 12:22 (بيروت)

"تشكل": تجريدية عربية واحدة.. أم أكثر؟

السبت 2021/01/23
increase حجم الخط decrease
كيف ندرس الفنون التجريدية في سياقات مختلفة؟ وأي نماذج للتحليل يمكن أن توظف؟ بمعنى آخر، هل يمكننا الاعتماد على مفاهيم وأطر غربية لفهم تاريخ التجريدية في أماكن أخرى من العالم، بعيداً من المركز؟ تطرح سهيلة تاكيش تلك الأسئلة في مقدمة كتاب "تشكل: الفن العربي التجريدي" (صادر بالإنكليزية، 2020). ويأتي الكتاب ضمن برنامج معرض يحمل العنوان نفسه، بالتعاون بين غاليري غراي للفنون بجامعة نيويورك، ومؤسسة بارجيل للفنون. ويسعى الكتاب، عبر تسعة فصول لتسعة مؤلفين، إلى تناول تلك الأسئلة في السياق العربي خلال عقدَي الخمسينات والثمانينات. ترفض تاكيش، في مقدمتها، التواريخ التقليدية للحداثة ذات المركزية الغربية، والتي لطالما تجاهلت المدارس الفنية في الأطراف، وافترضت أنها مجرد محاكاة أو انعكاس فاتر ومشوش لفنون المركز الغربي، وكأنها بالتالي غير جديرة بالاهتمام.



في فصل لاحق، يركز الكاتب، افتخار دادي، على الأصول الفلسفية لتلك النظرة الفوقية إلى الفنون غير الغربية، وكذا يكشف المفارقة الواضحة في تقييم الفنون الشرقية وفي علاقتها بالتجريد على وجه الخصوص. فنظرية هيغل للجماليات، ترى فنون الحضارات المختلفة تعبيراً عن مراحل متدرجة من التطور. وتأتي الفنون التجريدية أو ذات البُعدين، للثقافات غير الأوروبية، في قاع سلم التطور، فيما تحتل الفنون الغربية القمّة. فافتقاد الفنون الإسلامية واليهودية، على سبيل المثال، للمنظور، وجده هيغل دليلاً على بدائيتها، فيما رأى في إنجاز عهد النهضة الأوروبية للمنظور الهندسي أحد أعلى تحققات الفن الإنساني. لكن تلك الدلالات سيتم قلبها لاحقاً، ولصالح الفنون الغربية مرة أخرى. فمع تحول المدارس الفنية في الغرب تجاه التجريد، أصبح الافتقاد للمنظور دلالة على الحداثة وجماليات أعمق، لا تعتمد على الظاهر وحده، بل تذهب إلى ما هو تحت السطح. وبالتالي أضحى المنظور، والتصوير ثلاثي الأبعاد، قرين جماليات ساذجة تسعى إلى نسخ الطبيعة. ومع أن التجريد الغربي نهل في بداياته من الفنون"البدائية" أو "الوحشية" للعالم المستعمَر، فإن تلك الفنون ظلّت في العين الغربية تنتمي إلى درجة فنية أدنى، بل ولم تُصنَّف كفنون بالأساس في أحيان كثيرة، بل مجرد حِرَف. لا يسعى الكتاب لإعادة ترتيب تلك الهيراركية، بل للقبول بوجود حداثات عديدة متزامنة ومتقاطعة، تتشكل في المراكز والأطراف في سياقات مختلفة، وإن ظلت مترابطة.

وتتناول ندى شبوط، في الفصل الثالث من الكتاب، التجريد عبر حروف الأبجدية العربية، أو ما يعرف بمدارس الحُروفية. وعلى عكس النظرية الرائجة عن علاقة الحروفية بـ"الإسلامي"، فإن شبوط تستخلص العكس تماماً. فبحسبها، ترتبط الحروفية في تركيا وباكستان على سبيل المثال، بالسعي لتأكيد الهوية الإسلامية، بينما ظهرت الحروفية العربية في سياق تشكيل هوية علمانية، هي القومية العربية، في مقاومة للعثمانية أو الجامعة الإسلامية. وتُعدّ الفنانة السورية العراقية، هدى عمر، أول من استخدم الحروفية في اللوحة العربية في العام 1949، ليأتي العراقي جميل حمودي بعدها في مطلع الخمسينات. لكن اللافت للنظر هو أن عمل عمر على أول لوحاتها الحروفية تم أثناء دراستها في الولايات المتحدة، وأقيم معرضها الأول في واشنطن، أما تحول حمودي إلى الحروفية فتم بعد انتقاله إلى فرنسا.

ترفض شبوط النظر للحروفية كمجرد امتداد لفنون الخط العربي التراثية، أو كمحاكاة للتجريد الغربي بصبغة محلية، بل كجزء من عملية معقدة لصياغة جماليات عربية خاصة تمت في سياقات بعينها، ربما كردّ فعل على شعور بالاغتراب، أو تأكيداً للذات في مقابل الآخر الغربي. هكذا، تبدو الحروفية حاصلَ ضرب عاملَين: دلالة على الحداثة التجريدية، وعلامة واضحة على الهوية العربية. ومما تذهب إليه شبوط أيضاً، أن مدارس الحروفية في العالم العربي، تنوعت وأدت أدواراً متباينة بقدر اختلاف السياق السياسي والاجتماعي للبلاد المختلفة، فعلى سبيل المثال سعت الحروفية في سوريا لمقاومة الجماليات الاستشراقية وإحلالها، وفي الوقت نفسه كانت أداة فعالة في مقاومة هيمنة "حزب البعث"، عبر خليط من الرقابة الذاتية وتقديم محتوى تجريدي مبهم، وفي الوقت ذاته يصعب اتهامه بالتغريب أو عدم الأصالة، بسبب صبغته "العربية".

وفي فصل بعنوان "حين تصبح الهوية قالباً"، يتناول صلاح حسن، المدارس التجريدية في السودان، ويبدأ من المهمة التي ألقيت على كاهل مُبدعي البلد الإفريقي الكبير بعد الاستقلال، أي تشكيل هوية خاصة تتمايز عن المستعمر البريطاني السابق والجار الشمالي، وفي الوقت ذاته تصبح مظلة جامعة للتنوعات الإثنية واللغوية والثقافية في السودان. وكما برزت مدرسة "الغابة والصحراء" في الأدب السوداني أثناء تلك الفترة، تشكلت أيضاً مدرسة الخرطوم التشكيلية. ويرفض روادها، إبراهيم الصلحي وأحمد شبرين، الأسلوب الأكاديمي لدراستهما في لندن، لتتبنى مدرستهما عناصر تمزج بين التراثي الإسلامي والحروفية العربية وجماليات الفن الأفريقي. هنا أيضاً، لا يبدو التجريد في مدرسة الخرطوم، محاكاة للغربي، بل على العكس، تمرد عليه، في محاولة خلّاقة لتشكيل هوية بصرية متمايزة، وجماليات شديدة الخصوصية، تراثية وشديدة الحداثة في آن واحد. 

وتقدم هنه فيلدمان، دراسة للتجريد في الجزائر عشية الاستقلال، عبر النظر في المعارض الوطنية الأولى في عاصمتها بين العامين 1963 و1964، وفحص ذلك التوتر الذي شابَ استقبال الأعمال التجريدية. فكيف يمكن إنتاج فنون ثورية وتحررية، بواسطة قالب "غربي" عصي على فهم عامة الناس؟ يصرح بن بيلا أثناء حضوره للمعرض الأول، بأن "الاشتراكية منفتحة، وكل الأشكال الفنية مسموح بها، والفنان حر في إبداعه"، لكن يظل السؤال: كيف يمكن رفض القوة الكولونيالية في المجال السياسي، بينما تظل هي المركز ثقافياً؟ تستعين فيلدمان بأعمال محمد خدة وعبدالله بن عنتر، بين آخرين، لاستكشاف التجريد الفني في الجزائر، وبالأخص "مدرسة الإشارة" وعناصرها البصرية المستمدة من الفنون الأمازيغية والحِرَف التراثية، لتكشف عمليتين متزامنتين ومتقاطعتين، محاولة "التخلص من التعلم الغربي الزائف"، والثانية إعادة استكشاف الذات التي شوّهتها السلطة الاستعمارية.

في فصل عن التجريد والفنانات العربيات، لسلوى مقدادي، وآخر لسلطان سعود القاسمي عن الفنون التجريدية في الكويت في عقد الستينات، وتناوُل للفن التجريدي في لبنان قدمته كايلين ويلسن-غولدي، وبفصل ختامي لأنيكا لينسين بعنوان كاشف "تجريد الكثير"، تنكشف صورة أكثر تعقيداً وتنوعاً، تربط مدارس التجريد العربية، بعوامل وظواهر وتجارب عديدة، بإهمال المرأة في مجال الفن العربي والغربي، وباكتشاف البترول المبكر في الخليج، وتارة بالوجود الفلسطيني في لبنان، وانهيارات قطاعه المصرفي، الهجرة وفقدان الأرض، الاستعمار، وسلطوية الحكومات الوطنية، النكسة وغيرها.

ويجيب "تشكل" على الأسئلة التي طرحها في البداية، مقدماً أطراً ونماذج مبدئية للنظر في تطور الحداثات الفنية في العالم العربي، ويكشف تنظيرات وجماليات شديدة الثراء والتنوع لفنون المنطقة، في تاريخها القريب الذي لم يُستكشف بعد بما يكفي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها