في الحرب تطغى على الجميع خواص القاتل، ذلك ما تصفه بدقة قصيدة "صورة تذكارية مع بندقية" لحسن الحسن، التي تعلن جملتها الأولى اقتناع الشاعر بأن له سمات القاتل، اتهام المحقق المستمر له يقنعه بأن يده التي كانت بارعة في الكتابة واستخدام القلم، اكتسبت براعة في الضغط على الزناد:
"مشروعُ قاتلٍ أنا ؛
سبَّابتي التي تُرَقِّصُ القلمْ ..
قد تضغطُ الزنادَ –
قالَ ضابطُ التحقيقِ لي
عيناك
قاسيتان – قالَ – كقاتلٍ"
كذلك تحضر موضوعة الفقدان بكثافة في القصائد. تنسج قصيدة "من الغائبين إلى الغائبين" لرائد وحش، مستويات متعددة عن مفهوم الغياب، فيتنوع بين الغياب-الموت، إلى الغياب الرحيل والفراق: "منذ غابوا، لا مكان للقاء إلا المنام". بلغة مقتضبة لماحة، تنوس هوية الغائبين في القصيدة بكونهم موتى أحياناً، وبكونهم الراحلين عن المكان، أو المفارقين للذاكرة أحياناً أخرى: "هل نحن من نصحو لنلتحق بهم؟، أم أنهم من ينامون لينضموا إلينا؟، كلنا غائبون، عنهم وعنا، وينقصنا موتٌ يجمع شمل العائلة".
تفيض قصيدة "شهوة" لرشا عمران بحيوية منحازة للحياة. فمن العبارة الأولى تعلن الشاعرة شهوتها في الكتابة انحيازاً للحياة، وبينما يقدم المقطع الأول من القصيدة استعارات مجازية عن الحياة بوصفها الطبيعة، تتابع المقاطع التالية بتقديم استعارات مجازية عن الحياة بوصفها نماذج من الإنسانية. فالحياة هم أولئك الذين انحنت ظهورهم وهم يحملون أحلامهم التي استخرجوها من الحصى والتراب. الحياة هم أولئك الهاربون من الموت إلى بيوت لا استقرار لها، كأنها بيوت على أكتافهم في حال التنقل الدائم، لكنها تحميهم من منجل الموت، والحياة هي أيضاً تلك القدرة على السخرية، السخرية التي ترسم على جدران التاريخ أعين مفتوحة، السخرية هي نظرات ناقدة تحدق في التاريخ.
تأخذنا قصيدة "مزامير إزمير" لعلي سفر، بسردية شعرية حكائية، واصفة تجربة الموت غرقاً في قاع البحر الأزرق، البحر الذي تغير لونه من كثرة حضور الموت فيه. تتخيل القصيدة أن الغريق عاد من موته مع قدرة السباحة تحت الماء، ورؤية القاع، سيرى النفايات، وسيرى سترات النجاة العائدة إلى الذين نفقوا أو وصلوا الشاطئ من قبله. كلما ازدادت جثة الغريق اقتراباً من القاع، كلما تفككت عنه أعضاؤه: "كان القاع يناسب الغريق في عريه، بينما كان البحر الأزرق في الأعلى يبدو كحلياً مائلاً للموت قليلاً".
تلك العلاقة التي تربط الشاعر بمن حوله، هي ما يميز قصيدة "الحليب الأسود" لغياث المدهون، لقد فقد أخاه في الحرب، وها هم أصدقاؤه من السوريين يموتون تحت التعذيب، بينما يحاول هو الإندماج في بلد اللجوء الأوروبي الذي يفرض عليه ثقافة مختلفة. لقد خسر أصدقاءه فتحولوا ذكريات، صيَّرتهم الحرب قطاع طرق، أو قطاع مدن محاصرة بالجوع والخوف. تنسج القصيدة تنويعات من أنواع العلاقة مع الآخر، مع الأهل، مع الأصدقاء، حتى أنه لم يعد هناك غرباء. يعلن الشاعر أنه لن يعلم ابنه الحذر من الغرباء، لأنه يدرك بعمق تجربة الغريب، لأنه هو الغريب. الشاعر هو كل غريب فقد يده بالحرب، كل أرمل فقد زوجته، كل مهاجر عبر المتوسط. الغريب في القصيدة هو الكل، المتضررون من جراء الحرب، والخاسرون من ضحايا المأساة: "أنا لن أعلِّم أبنائي أنْ يخافوا الغرباء، فأنا واحد منهم، لن أقولَ لهم لا تكلموا الرجلَ الغريب، فذلك أنا، أنا الغريبُ الذي فقد يده في الحرب، الأرملُ الذي لم تمتْ زوجَتُه، المهاجرُ الذي لم يغرقْ في المتوسط".
كذلك تنطلق قصيدة "إبحار الموتى" لميس الريم قرفول من فرضية تخييلية تمنح الميت الحيوية في قبره، فتستهل القصيدة وهو يحرك أحجار قبره وينفض الغبار عنه. يغرز أصابعه في الأرض ليروي عطش الموتى، لكن حاجة الموتى ليست للماء، بل لأن تنسج عنهم الحكايات، علها تطرز بعضاً من جراحهم. في القصيدة حضور-عقل-ذهن، يتأمل تجربة الموتى، يتفرج على مسيرتهم، يتلمس تساؤلهم المستمر عما يحدث معهم لتتوالد أسئلة عن الموت، هل يرحل الموت بعد الموتى؟ هل يتذكرنا الموتى الأحياء منا؟ هل يدرك الموتى مقدار القلق الذي ينتابنا عند التفكير فيهم؟ لتنتهي القصيدة بصورة الموتى يبحرون ليلاً بسفينة صنعوها من الحبر القاتم، الذي استخرجوه من دموع من يبكي عليهم: "كسر خابية الوقت قليلاً بالتفرج على الموتى، مباركة لهم مسيرهم، وسؤالهم ماذا يحدث معهم. هل انتهى الموت لما ماتوا؟ هل يتذكروننا لما كنا معهم؟ مواعيد العشاء ذاتها؟ أم أنهم لا يأكلون؟ ينامون على ضلعٍ واردٍ من معاني أرقنا، ويمتصون دموعنا، حتى إذا ما أسود الليل حولها لحبرٍ قاتمٍ وأبحروا".
وإذا كانت القصيدة السابقة تتخيل ميتاً يتحرك من قبره، فإن قصيدة "اسمي أربعة أرقام" لوفائي ليلى، تروى من قبل ميت. لا يتبين للقارئ موت السارد إلا مع اكتمال النص. ففي البداية، يقصد الشاعر إلى تكوين صور من لحظات عائلية أو ذكريات مع أصدقاء توحي بأنه على قيد الحياة. لكن رويداً رويداً، نكتشف أن الراوي هو جثة في غرفة غسل الموتى، يدخل الغسّال القطن في فتحات أنفه وأذنيه، بينما يقول أنها المرة الأولى التي يغسل فيها جثةً تقف منتصبة ومفتوحة اليدين. إنه الميت الذي لم يعي موته بعد، فالسارد مازال منتصباً مفتوح اليدين، متوهماً أنه مازال على قيد الحياة.
يستعير الشاعر عبد الكريم بدرخان عنوان الكتاب الشهير لرولان بارت "الكتابة في درجة الصفر" ليجعل منه عنواناً، وفكرة سردية لقصيدته. فالشاعر ينطلق من وصف لحظة الكتابة التي يعيشها، لينتقل إلى وصف تجربة الحياتية كاملةً، لقد انكسر الهواء في رئتيه، ورحل الأصدقاء عنه، فتحولت ذكرى ضحكاتهم إلى دموع ألم الفراق. لقد آمن بانتصار العدم إلى راح يغنيه في ترنيمة لطفل، يخبره فيها أن يغوص في الندم، لأن كل ما في الوجود عدم، وأن المجد مترافق مع الألم. لكن الكتابة في هذه القصيدة تعوج لتظهر كفعل خلاص، الكتابة قادرة على أن تعيد الحياة حتى مع هذا التسيد الكامل للموت، الكتابة تخيط الندوب والجروح التي تصيب الحياة: "أكتبُ الآنَ في درْجةِ الصفرِ، حيثُ أضمُّ رفاقَ الحياةْ، كلُّهمْ رحلوا... وضحكاتُـهُـمْ تتساقطُ من أعـيُـنيْ دَمَـعَـاتْ، أكتبُ الآنَ في لحظةِ الموتِ سِـفْـرَ الحياةْ، أحوكُ خيوطَ الحياةِ التي مـزَّقـتْـها الحياةْ".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها