السبت 2020/05/16

آخر تحديث: 14:04 (بيروت)

ثالث الأمكنة

السبت 2020/05/16
ثالث الأمكنة
increase حجم الخط decrease
 
            
خذ بيدي أيّها النعاس،
لا أريد "يقظة تطيح بأحلام الكرى"
ولا موتاً.
خذ بيدي الصغيرة، أمسك أناملها الطريّة،  
واعبر بي البراري والسهوب والجبال. 
دعني أراها بعينيّ المغمضتين 
دعني أرى جمال الأشياء كالوردة مطبقة أجفانها على نفائس النهار 
جفناً على جفن، غروباً تلو غروب.
دعني أطوّق عنقك بذراعيّ،
سر بي بمحاذاة الأخربة 
لن تأخذني رهبة. 
ألبسني بهاء التلال المتلفّعة بمتاهات الأودية 
وطيب الوزّال. 
خذ بيدي الصغيرة 
بهذه الهشاشة التي لا محيد عنها،
لا أعترض
 لا أنبس بكلمة 
لا أتنهّد،
أسهو سهو الشاردين
أطاوعك مسرنماً لا يسقطه فراغ ولا فضاء يكمن له ،
اليقظة 
مَجلَبةُ هلاك وسلبُ نفسٍ.
أيّها النعاس مسّد عينيّ لا تتشبّه بأحد،
لا تطلب من تلك التلال البكماء نطقاً
انظر إليها ولا تتنبّأ،
ولا تنقش على الألواح أيّ رؤيا، فقط وسّعْ خطاي،
هذه الحياة، وما فيها إلى انقضاء، نار حارقة بلا ضوء 
وذاك الموت ثلج لا يذوب
وإن كساه تراب فاحم.
أيّها النعاس
دع جدّتي تطبخ وحدها صحون الرماد في مداخنها المطفأة
دعها تطرش بالكلس جدراناً عمياء
تهجّىء الأعشاب دون اسم
تقرّص عجين الهباء
وتذرّي في ريح العدم بذوراً خبيئة،
دع جدّي لعظامه المنخلعة 
وحيداً يرطم عكّازه بأروقة الأبدية،
 دع أبي وحيداً يقود سيارته على اللاطريق
هارباً من زمر كلاب تنبح فاغرة الأشداق 
تطلق عيونها شرراً مسعوراً،
لا ترجئ بكائي كما دوماً
دع دموعي تسكب كل مطرها كفكفها بدفء عباءتك.
خذ بيدي أيها النعاس
اعبر بي الباب الخشبيّ القديم 
مفتوحاً كان مفتوحاً يظلّ
اعبر بي الباب الخشبيّ القديم حيث وطّدْتُ عتبتك
لن آخذ من كنوز الأيام إلا مفتاحه الأعوج 
وشعاعاً تسرّب من كوى الفجر. 
حوّلت وجهي عن كلّ شيء، عن كلّ لغو، عن كلّ توجّس مهلك، 
عن أخبار آبائي وألغازهم،
 أنا منهم براء.
خذ بيدي أيّها النعاس،
ليكن رعد الأهوال خلفنا، لتسقط شهب النار كقرع طبول في قرى لا تني تبعد،
لتتهشّمِ الصواعق متقصّفة كغصون الغاب في الحريق. 
ألتمسُ يدك يا ملاك الحلم، 
اهدني بالغمام النقيّ فوق الربوات كلحية إله،
والحور تعزف فيه كنانيرالريح،
يدي مبسوطة وتراً 
تشدّ عليك طفلة 
لم تهزم خوف الضياع، ولا حفيف وريقة في الليل، ولا أزيز جندب سقيم.
سر بي على العشب الوثير كرذاذ 
أهبط بي من المنحدرات المتأوّدة
وإن شئت انهض بي على الربى المتسربلة بالسرو المسنّن، تذلّلت حدّته، 
وإن زلّت بي قدم ارفعني على صخور الأزل.
خذ بيدي أيها النعاس 
أعد لي نفساً قديماً 
نفساً غائراً في صدري كنبع الحقل الوحيد،
أعد لي قامتي البكر، 
لن أملأ راحتيّ بذاك الجمر بعد اليوم
لن أجعل قلبي موئل الأرق ولا وخز لهفته،
ولن تصفّق أجنحته في أقماط طيرانه.
خذني بيدك أيّها النعاس إلى عتبات بلا بيوت، 
إلى أدراج لا تفضي إلى مكان.
اجعلني حيّة في دمي
اذهب بي إلى آخر الأيام، 
سلّمني إلى المشارف المنجّاة.
إن رحمتك أطيب من الحياة
وعبورك بي أقدر من الموت. 
أمسك بيدي الصغيرة الهشّة يا ملاك النوم
واحمل قامتي الضئيلة إلى المكان الثالث، 
إلى يمبوس الهضاب اللازوردية التي براها حفيف قدميّ في الأحلام. 
إلى تخومٍ لا يُختم عندها شيء.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب