الإثنين 2020/04/06

آخر تحديث: 03:28 (بيروت)

أحمد برقاوي: أستاذي أنطون مقدسي.. ماركس يتحدث بلسان المسيح

الإثنين 2020/04/06
أحمد برقاوي: أستاذي أنطون مقدسي.. ماركس يتحدث بلسان المسيح
انطون مقدسي
increase حجم الخط decrease
منذ دخوله قاعة الدرس لا تثبت عيناه على مكان، لم يكن يلقي درساً علينا، كان يقوم برحلة، ويقودنا معه في هذه الرحلة، تحس بأنه ليس موجوداً معنا، أي سحر يمارسه أفلاطون على هذا الرجل، بل كنت على يقين بأنه رغم إقامته في دمشق، كان يعيش في أثينا قبل الميلاد، ولم يغادر أكاديمية أفلاطون ولا رواق أرسطو. أجل درّسنا الفلسفة اليونانية بحب، وغرسها في وعينا، لا بوصفه أستاذاً محاضراً، بل داعية لها.

وحين سألناه: ما هو الكتاب المقرر يا أستاذ؟ أجاب: محاورات أفلاطون. أصابتنا الدهشة والتأفف وسألناه: أي المحاورات: أجاب الجمهورية والثيئتتوس والسفسطائي والمأدبة وراح يعدد. وسأشرحها لكم هي وأرسطو. المطلوب منكم أن تعرفوا أفلاطون وأرسطو.
قال لنا بكل وضوح، كل الفلسفة بعد أفلاطون ليست سوى شرح لما جاء به أفلاطون، كل أسئلة الفلسفة طرحها أفلاطون.

لا أنسى ما حييت أغرب سؤال في امتحان الفلسفة اليونانية، الذي وضعه أنطون مقدسي: تحدث عن الفرق بين مُثل أفلاطون وأجناس أرسطو.

كنا ثلة طلاب بلوزيين (نسبةً إلى نايف بلوز)، وكنا دائماً مع الأستاذ، ومولعين بمحاضرات أنطون مقدسي أيضاً، الذي يقف على الضفة الأخرى من الفلسفة. ولم يكن أنطون أستاذاً ذا علاقة مع الطلاب أبداً، وربما لم يعرف اسم أي طالب من طلابه، سوى اسم طالب وحيد كان من المتنفذين في السلطة.

كانت علاقته بماركس علاقة غامضة. يحب من ماركس نقده للرأسمالية، أما الماركسية فلم يكن يعيرها أي اهتمام. حين ألقى كلمة رثاء لسعيد حورانية في سينما الحمراء، أشاد به وبإيمانه والدفاع عما يؤمن به.

وتمضي السنون ويقوم سعدالله ونوس بإجراء حوار مع الأستاذ في الكتاب الدوري (قضايا وشهادات) صيف 1990 وفيه يقول:
"أنا أعلم أن الصورة قاتمة ومحبطة، لكني ـ ما دامت لدي القدرة ـ سأظل أعمل وأبدي رأيي. تمر لحظات قصيرة أشعر فيها باليأس، لكني سرعان ما أنحيها قائلاً لنفسي: سأواصل المحاولة حتى مماتي".

عاش بين جدران أربعة يفكر بحرية وظلّ مشدوداً للمستقبل، يتأمل تجربة الماضي بجمالها وقبحها، بيقظتها وسباتها، بانتصارها وهزيمتها. يتجاوز وعيه بالعالم دائماً، لكنه ظلّ مشدوداً الى الحداثة والعقلانية والديموقراطية.

مثقف الممكن، لم يأسر نفسه في النزعة الأكاديمية الخادعة، ولم ينكص الى ذاتية يائسة تنال من أحلام الناس، بل ظل مشروعاً يرسم الوجود الآتي. هاجسه الإنسان الحر في الشرق والغرب فلم يتغرب ولم يتشرق.

في مكتبه الصغير في وزارة الثقافة كان يرسم مشروعاً للوعي عبر الترجمة، وتأتي كتب آلان تورين، والتوسير وهنري لوفيفر، وشاتليه، ورأس مال ماركس. كأنما أراد تجاوز فقرنا الروحي بإثرائنا بالوعي الغربي بالعالم. لكن أنطون، ناقد شرس لحداثة الغرب التي أفقرت الإنسان عبر الرأسمالية. أرادها حداثة من دون اغتراب، لأنه مع الإنسان الذي حلم به ماركس والمسيح.

حسبك أن تستمع إليه حين قال: "لقد فجّر الإنسان كل غرائزه: الآلة، المجتمع الاستهلاكي، الصور، السينما، التلفزيون.. كل هذا فجّر غرائز الإنسان جميعاً، فصار فقيراً. لم يعد لديه ذلك الفائض. وهنا نقطة ضعف الحداثة. الإنسان في حقيقته فائض عن ذاته. في هذه المجانية التي تطفر منه. الآن ضاعت المجانية. كل قيمة المسيحية أنها استغلت هذه المجانية الى أبعد حد، أو أرادت أن تهبها. فالفكرة المسيحية، وهي تختلف عن النظام الكنسي والتديّن، مبنية على أن كل ما في الدنيا مجاني، لا ثمن له. لأن الرب مجاني. كل ما في الطبيعة مجاني. الله يحب، يعني أنه يعطي كل شيء. هذه المجانية تلاشت واندثرت… ما من شيء مجاني في واقعنا الراهن. كلها أسعار وحسابات. حتى الكتابة صارت جزءاً من العملية التجارية الواسعة.. هنا مأزق الرأسمالية، ومكمن الفساد. هذا الوضع أفقر الإنسان".

هو ماركس يتحدث بلسان المسيح، أو المسيح يتحدث بلسان ماركس. إنها طوباوية ولا شك، لكنها طوباوية التمرد، طوباوية أفضل من واقعية آسنة تدافع عن الواقع. كان ديالكتيكياً، لكن على الطريقة الأفلاطونية، معتقداً بأن أفلاطون هو أبو الديالكتيك في الأصل.

في بداية ربيع دمشق، وعلى أثر خطاب قسم الوريث، كتب مقدسي رسالة شجاعة إليه، دان فيها الواقع، مدافعاً عن الشعب، وطالبه فيها بالعمل من أجل نقل السوريين من حال الرعية إلى حال المواطنة.

في بداية ربيع دمشق اتصل بي رياض سيف، يدعوني لإلقاء المحاضرة الثانية في منتداه، وحين سألته من هو المحاضر الأول، أجاب أنطون مقدسي. وهكذا كان. كانت محاضرته حول المجتمع المدني، وكانت محاضرتي بعنوان: الدولة والمجتمع. وقام رضوان زيادة بنشر جميع المحاضرات لاحقاً في كتاب.

عاد أنطون مقدسي في سنواته الأخيرة إلى إيمان لاهوتي، بعيداً من الفلسفة، بما كتبه عن دلالة ما قيل بأنه انسكاب الزيت من أيقونة للعذراء.

أهم ما كان يميز مقدسي تقديره للإختلاف، وحبه للمحاورة، فهذه الروح الأفلاطونية رافقته حتى النهاية.

أجل، أحب أفلاطون من دون عبيد، ومال الى ماركس من دون ماركسية، واحتفظ بالمسيح وروح المسيحية، وظل عروبياً بلا تعصب. أحب الأرسوزي ولم يكن أرسوزياً، خان الفلسفة وصدق قصة سيلان الزيت من أصابع أيقونة العذراء في كنيسة الصوفانية. ويبدو بأن هناك علاقة، عند البعض، بين الشيخوخة والعودة إلى الإرث الديني.

يجب أن أشير إلى أن الوريث الحقيقي لأنطون مقدسي في تدريس الفلسفة اليونانية هو طالبنا النجيب الأستاذ الدكتور سليمان ضاهر، خريج أكاديمية الفلسفة في لينينغراد.

(*) مدونة نشرها الأكاديمي وبروفيسور الفلسفة السوري، أحمد برقاوي، في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها