الثلاثاء 2020/12/08

آخر تحديث: 13:23 (بيروت)

إيمان مرسال بين انتحارين أو أكثر

الثلاثاء 2020/12/08
إيمان مرسال بين انتحارين أو أكثر
عنايات قابعة في عقل إيمان، تقول لها: "أنتِ مفتونة بي وأنا أيضًا مفتونة بكِ"
increase حجم الخط decrease
خلال فترة وجيزة، استطاعت الكاتبة والشاعرة المصرية المقيمة في كندا، إيمان مرسال، أن تعيد تسليط الضوء على شخصيتين إشكاليتين و"مهمشتين" في الثقافة المصرية، يجمع بينهما إصدار رواية وحيدة، وإنهاء حياتهما بالانتحار أو "الموت النبيل" على حد ما عنونت مجلة "الناقد"... الشخصية الأولى هي وجيه غالي(1930- 1969)، الكاتب المصري الانغلوفوني صاحب رواية "بيرة في نادي البلياردو"، والتي كتبها أثناء إقامته في أوائل الستينيات بين برلين ولندن، وكان دور إيمان مرسال أنها ترجمت روايته إلى العربية. أما الشخصية الثانية، فهي الكاتبة المصرية عنايات الزيات، التي انتحرت في شقتها بمنطقة الدقي(القاهرة)، في 5 كانون الثاني (يناير) 1963، وكان دور إيمان مرسال أنها كتبتْ سرداً مثيراً عنها. والكتاب ليس سيرة ولا رواية، وليس مجرّد تتبّع لأثر عنايات. و"الأَثر" بحسب لسان العرب "بقية الشيء، والجمع آثار وأُثور. وخرجت في إِثْره وفي أَثَره أَي بعده"، وبالنسبة لإيمان فإن "تتبع الأثر لا يعني ملء كل الفجوات ولا يعني البحث عن كل الحقيقة من أجل توثيقها إنها رحلة تجاه شخص لا يستطيع الكلام عن نفسه، حوار معه، لا يمكن أن يكون إلا من طرف واحد".
 
تتورط إيمان مرسال في سيرة حياة مشروع كاتبة، فارقت الحياة باختيارها، وهي لم تكمل بعد عامها الـ27. من بداية السرد في الكتاب، يبدو أن عنايات كانت قابعة في عقل إيمان، وتقول لها: "أنتِ مفتونة بي وأنا أيضًا مفتونة بكِ"، إنه التوله والحب الشديد، تجمعهما أحوال ما، ولم يلتقيا. القصة بدأت في مطلع تسعينيات القرن الماضي، أثناء بحث إيمان مرسال عن نسخة زهيدة الثمن من كتاب "كرامات الأولياء" للنبهاني في سور الأزبكية في القاهرة (حيث تباع الكتب العتيقة أو المستعملة)، فوقعت بين يديها رواية "الحب والصمت" لعنايات الزيات، والتي دفعت ثمنها جنيهاً واحداً، وتصورت أن "الكاتبة لا بدّ أنها أخت لطيفة الزيات الصغرى"، ولاحقاً صارت تتخيل "قد تكون ابنة عمها". وعند قراءتها للرواية تقول إيمان: "في (رواية) الحب والصمت، لغة طازجة ومنعشة؛ أحياناً باردة، وأحياناً عاطفية، وأحياناً متعثرة كأنّها ترجمة من لغة أخرى، أحياناً متأثرة بأجواء الرواية الرومانسية عامة في زمانها، وأحياناً حديثة وغرائبية وشفافة وفريدة، إنّها عمل أوّل بامتياز، تتجاور النبرات، لكنّها تتآلف تحت بصمة كاتبة موهوبة".

بعد أكثر من عشرين عاماً على اللقاء الأول، الذي جمع مرسال بكتاب الزيات على أحد أرصفة القاهرة، تعود مرسال مجدداً بعد رحلة أكاديمية وبحثية عاشتها في أروقة كندا، لتقرّر أن تكتبَ، كل ما يمكن أن يصل إليه بحثها عن عنايات الزيات. قرأت روايتها "حب وصمت" خمس مرات، وفي هذا تقول: "هناك فضول يتلبسنا عندما يكون الكاتب مجهولًا، مقطوعًا من شجرة، لا نبذة عن تاريخ الولادة أو الموت، معلومة عن جيل أو أصدقاء أو شلة أو آباء وأمهات في الكتابة (...) لمن كانت تقرأ عنايات؟ وهل كان مصطفى محمود من كتّابها المفضلين؟ ومَن مِن مجايليها قرأ مسوداتها، أو تبادلت معه آراء عن الكتابة؟ هل تعرفت على أي من كتّاب لحظتها التاريخية، أم كانت على هامش اللحظة الأدبية التي شكلتهم؟".

عثرت إيمان على مربع صغير في جريدة "الأهرام"- عدد يناير 1967، وكان إعلانًا عن إحياء ذكرى المرحومة عنايات الزيات، مع ذكر للمدفن الذي دفنت فيه. وكان هذا هو الخيط الأول لرحلة بحث طويلة، تدرجت إلى البحث عن علاقة الصداقة بين عنايات، وبين الفنانة الراحلة نادية لطفي، وأثر تلك العلاقة في حياة عنايات، مروراً بقصة زواجها بشخصٍ قاسٍ، لم تستطع الانسجام معه، إلى جانب حكاية روايتها الوحيدة التي تعثر نشرها في دار النشر القومية في العام 1960، الناشر الحكومي، الذي هو جزء من نظام ثورة يوليو الناصري، وصولاً إلى معاناتها مع مرض الاكتئاب، الذي قادها في النهاية إلى الانتحار بعد تناولها عشرين قرصاً منوماً، يوم 3 يناير 1963.

جاءت مرسال إلى القاهرة من كندا لمقابلة نادية لطفي، التي كانت أقرب لعنايات أكثر من أي شخص، لكن رحيل فاتن حمامة أجّل تلك المقابلة، فأُحبطت ثانية... اكتشفتْ مرسال أن أرشيف عنايات وأوراقها فُقدت جميعًا في أثناء إعادة طلاء البيت، باستثناء أوراق قليلة، سبق نشر معظمها. وتقول مرسال، في مقدمة الكتاب: "قبل أن تتحوّل عنايات من كاتبة مجهولة إلى نداهه تطاردني، قبل أن أرى صورتها، وأسمع طرفًا من أخبارها، وأشعر أنني مشدودة من أنفي لمعرفتها، كنت أبحث عن الكنز، عن أرشيفها الشخصيّ الذي لا بد أنه هناك، متفرق بين البيوت وجغرافيا القاهرة وفي ذاكرة من تبقى من حياتها من أحياء". وتضيف: "تدمير أرشيف عنايات الشخصيّ، بدا لي مثل كارثة في أول الأمر، لكن غيابه جعلني أتتبع أثر ما طُمس. جعلني أفكر أن طموحي ليس عرض حياتها في صفحات كتاب، عرض حياة شخص ميت هو مشاركة في التسطيح والتفريغ المستمر للماضي من معناه. قلتُ لنفسي، لا يجب أن أتكلم باسمها، لا يجب أن أقدم مسودة لحياتها، هناك لحظة تقاطع بيننا، سأجعل هذه اللحظة تعمل مثل دليل روحي وسنختلف في كل ما عداها كثيرًا. ربما هي نفسها لا توجد إلا في هوامش نجت من سيطرة المؤسسات والأسرة والأصدقاء؛ ربما كان عليَّ أن أتتبع آثارها في "الهالِك"، في جغرافيا دارسة عاشت وماتت فيها، الشارع والمقبرة والمدرسة الألمانية ومعهد الآثار الألماني، في قانون الأحوال الشخصية وقضية الطلاق، في سياق رفض الرواية ونشرها، في الأحلام والصداقة والحب والاكتئاب والموت. لقد بدتْ لي قصص كل من تقاطعت حياته مع حياتها، وكأنها جزء من قصتها. أردتُ أن أعرفهم واحدًا واحدًا لأنهم مروا بحياتها". وبذلت إيمان مرسال جهدًا كبيرًا في العثور على الفيلا التي بناها والد عنايات في الخمسينيات، حيث اكتشفت أن اسم الشارع وجغرافيا المنطقة قد تغيرا تمامًا. وأن أسترا، بائع الألبان بجوار الفيلا، لم يعد موجودًا. وقابلت مدام نحاس، جارتها، وتحدثت معها كثيرًا عن عنايات وعائلتها، وربما تكون هي آخر مَن قابلت عنايات قبل الانتحار... تمشي مرسال لتجيب عن سؤالها، فتلتقي بعظيمة الزيات، الأخت الصغرى لعنايات. وعرفت منها أن ابنها عباس سقط من بلكونة ومات في عز شبابه، ولاحظت أن عظيمة تذكر "موت عنايات" ولا تستخدم كلمة "انتحار" على الإطلاق، "كنتُ على وشك أن اسألها عن ذلك، لكنني قررت أن هذا قد يكون مؤلماً للغاية"، ولاحقاً ذكرت عظيمة كلمة انتحار...

تراسل مرسال إحدى صديقات عنايات في المعهد الألماني لتعرف منها ترددها على مستشفى "بهمن" في حلوان لتلقي العلاج، وتقَصَّت عن مؤسِّس المستشفى، د.بهمن، وقابلت د.ناصر لوزة، حفيد بهمن، مدير المستشفى حاليًا. فعنايات عاشت حياة قصيرة تحارب الاكتئاب ويعبّر عن ذلك ما قالته "إنني أحسّ بانفصال عن الكلّ، وأنظر من نافذة عينيّ إلى الناس، والأماكن حولي، لكنّني لا أتفاعل معهم، وفجأة أجدني قد انفصلت عن وجودي، وخرجت من داخلي، أتفرج وأسمع، وكأنّ ليس لي جسد جالس يتحرّك ويعيش، أحسّ أنّني قد عشتُ حياتي من قبل، فلماذا إذاً أوجد من جديد؟!". حالة الاكتئاب تسببت في تأخيرها الدراسي عاماً كاملاً في المدرسة الألمانية، حيث التقت نادية لطفي. وبحسب الحوار المنشور في مجلة "المصور" في 16 مايو 1967 بعنوان "نادية لطفي تروي سر انتحار عنايات الزيات"، فإن عنايات كانت زميلة الطفولة المبكرة، جلست بجوارها في المدرسة، وكانتا تحبان الرسم والذهاب إلى السينما، ونشرت مرسال صورهما في أكثر من مناسبة.

ذكرتْ نادية لطفي، لإيمان، أنها كانت تذهب مع عنايات لتفصيل الفساتين والمايوهات عند الخيّاطة، مدام أفلاطون (اسمها صالحة أفلاطون)، وهي والدة الفنانة، إنجي أفلاطون...

أثناء رحلة البحث، تكشفت وجوه الحياة في سيرة عنايات، من علاقتها بزوجها القاسي الى انعتاقها من أسر الزواج وخروجها للعمل، تلقيها العلاج النفسي، علاقتها بأنيس منصور ويوسف السباعي ومصطفى محمود، ومتاجرة بعض هؤلاء باسمها وقصتها المأسوية، وتأويلات حول إقصاء روايتها من سجل روايات المرأة العربية. وفي هذا المشهد تتجلى سخرية الكاتبة ونقدها لرموز السلطة الأدبية في ذلك الوقت والذين تسميهم "كهان الأدب". وتضع نجيب محفوظ ويحيى حقى ويوسف إدريس فى جانب آخر له تقديره. واكتشفت مرسال أن عنايات كانت تكتب رواية ثانية عن الألماني لودفيغ كايمر، المولود العام 1892، وهو الذي درس التاريخ والآثار واللغويات والقانون، وانتقل ليعيش في مصر، وباع مكتبته التي تحتوي على 7000 كتاب نادر وصور ومقتنيات، إلى معهد الآثار الألماني. وتختم مرسال كتابها بفصل كامل عن الكاتبات اللواتي قمن بجز شعرهن في لحظات اليأس، مشهد فيه شيء من روح الرواية ويمكن أن يؤسس لرواية أو فيلم سينمائي... جزّت عنايات شعرها أمام المرآة. ربما كانت هذه خطوتها اليائسة الأخيرة للمداواة. تتخيل إيمان كل الكاتبات وهن يفعلن ذلك، يجززن شعرهن مرة على الأقل، مع كل خيبة أمل، تسميها إيمان: "أنطولوجيا جزّ الشعور"، وعلى مائدة جز الشعر تحضر مي زيادة ووردة اليازجي وعائشة التيمورية وعائشة عبد الرحمن.

 تُنهي مرسال رحلتها في المقابر بعدما دُمّر شاهد قبر عنايات الرخامي، وتتساءل: "هل يجب أن تكون واقعة هدم المقبرة نهاية رحلتي مع عنايات؟". قال النقاد والكتّاب: لقد انتحرت عنايات لأن قصتها "الحب والصمت" رفضت من دار النشر في ذلك الوقت. وايمان مرسال تقول إن عنايات انتحرت بسبب القسوة، فامرأة سعيدة لا يمكن أن تنتحر من أجل كتاب. 

* (يتبع: عن انتحار الروائي وجيه غالي...)
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها