وأمّا الخلاصةُ في صددِ الطائفيّةِ ومفاعيلِها فيجمِلُها المؤلّف في وظيفتين: الحراسةِ والمحسوبيّة. وكلتاهما منوطتان بحمايةِ النظامِ وتأبيدِ سُلْطانِهوتتولّى جلَّهما"الدولةُ الباطنةُ" (أي أجهزةُ المخابرات المختلفة وقطاعاتُ النخبة المولجةُ بالأمنِ أيضاً من الجيش). والوظيفتان، بما تنطويان عليه من تمييزٍ جائرٍ وظلمٍ فاجرٍ مترامي الأطراف، وظيفتا نشرٍ للشقاقِ الطائفيِّ (ويَلْحقُ به تمكُّنُ النظامِ من "إدارةِ الفتنة"). ويُماشي الشِقاقَ تعزيزٌ للتفاوتِ الاجتماعيِّ ويعملُ على تأبيدِ هذا كلِّهِ إغلاقٌ محْكَمٌ ما أمكَنَ الإحكامُ لساحةِ العَمَلِ السياسيّ، بَعْدَ شَغْلِها بأشباحِ تنظيماتٍ سياسيّةٍ مضمونةِ الولاء[2]. حتّى أنّ حزبَ البعثِ نَفْسَه وما كان يتْبعُه من "منظّماتٍ شعبيّةٍ" ذواتِ صفةٍ نقابيّةٍ أو شبابيّةٍ، في الغالبِ، قد مضى بعيداً في مسارِ التحلّلِ والذَواءِعلى عهدِ السلطانِ الثاني فباتَ كبيرَ تلك الأشباحِ اليوم...
ثُنائيّات...
ذكرْنا ثُنائيَّ الحراسةِ والمحسوبيّةِ، بما هما وظيفتان للتمييزِ الطائفيِّ، وهذا أوّلاً. وذكرْنا ثُنائيَّ الدولةِ الظاهرةِ والدولةِ الباطنةِ، بما للأخيرةِ من هيمنةٍ على الأولى تَلجمُ أداءَها لعملِها المفترضِ وفْقاً للمنطقِ البيرقراطيّ: هذا إلى اختراقِها المجتمعَ الذي توزّعُ عيونَها في شعابِهِ كلِّها، وهذا ثانياً. أشَرْنا أيضاً إلى ثُنائيٍّ آخرَ جناحاه ما يسمّيهِ المؤلّفُ طائفةَ السياسةِ العامّةِ وطائفةَ الدينِ العامّ، وهو إذ يُمْلي خلُوَّ الثانيةِ من السلطةِ في ما خلا ما هو مختصٌّ بالدِينِ حصراً ومن السياسةِ في ما خلا نُثاراً يستجْلِبُ الولاءَ للسلطانِ ويعزّزُ قبضةَ نظامه، إنَّما يُحْدِثُ حدَثاً بارزاً هو تسليمُ النظامِ بانقسامٍ في السيادةِ لقاءَ إرساءِ الواحديّةِ في السياسة، وهذا ثالثاً. نَوّهْنا أيضاً بثُنائيّ البرجوازيّتَيْن، التقليديّةِ المتكيّفةِ بإملاءاتِ أهلِ النظامِ والمركزيّةِ المرعيّةِ النُشوءِ من جانبِ النظامِ أصلاً إلى حدِّ استحواذِ أعيانِه على مقدّراتِها، وهذا رابعاً...
وفي هذا ما يكفي إشارةً إلى كونِ الثُنائيّات هي الهيكلُ التصوّريُّ للكتابِ كلِّه ينظِّم بتوسّطها هيكَلَ "الحالةِ الأسديّةِ" أو السلطانيّةِ المحدثةِ في سوريّة بما يراه المؤلّفُ لها من "فرادةِ" التكوينِ والسيرورةِ والعمل. وإذا كانت هذه الفرادةُ تَسْتبعدُ، على ما ذكرْنا، إدراجَ النظامِ الأسديِّ في الخانةِ العامّةِ للاستبدادِ العربيِّ أو الشرقيِّ (وقد رفعَهُ بعضُ الاستشراقِ إلى سويّةِ الطبيعةِ أو الماهيّةِ) وفي ما يليهِ من استثناءٍ (روّجَ له بعضُ الاستشراقِ أيضاً) من مدِّ الديموقراطيّةِ المعاصرِ، فهي تَسْتبعِدُ أيضاً إدراجَهُ في صفِّ الأنظمةِ المعروفةِ بالشُموليّةِ (نقولُ: الكُلّانيّة) وهذا لافتقارِهِ إلى مِثالٍ جامِعٍ يسَعُهُ اقتِراحُهُ على دولتِهِ ومُجْتَمَعِهِ (بل أيضاً على سِواهُما من الدُوَلِ والمجتمَعاتِ) باعتِبارِهِ مِثالاً يُحْتَذى وموضوعاً لدَعوةٍ وقيمةً جديرةً بالتبَنّي. فحتّى استِذكارُ الفاشيّةِ الإيطاليّة للإمبراطوريّةِ الرومانيّةِ باتَ نظيرُهُ العربيُّ مُتَعذِّراً على النظامِ منذُ أن نَبَذَ حزبُ البَعْثِ الوحدةَ العربيّةَ ظَهْرِيّاً (ومَعَها الاشتِراكيّةَ ودَعْكَ من الحرّيّة!) أي من زَمَنٍ ليس بالقَصير...
ضِفّةُ المعارَضات
على الضِفّةِ المقابلةِ للنِظامِ، تبدو الفرادةُ الأسَديّةُ للمؤلّفِ مُحَكَّمةً أيضاً، بما تنطوي عليه من تفريعٍ، في تفريعِ "المعارضاتِ" التي واجهَها النظامُ (وما يزالُ):لا في مَعْمَعانِ الثورةِ السوريّةِ وأعقابِها وحسْبُ، بل قبلَها بكثيرٍ أيضاً. إذ كانت المعارضةُ، من إسلاميّةٍ ويساريّةٍ، قد اسْتَوَت، على ما يستذكِرُه المؤلّفُ، غرضاً لـ"حربٍ" أولى شنّها عليها الأسدُ الأبُ بين أواخرِ السبعيناتِ وأوائلِ الثمانيناتِ من القرنِ الماضي...
هذا وأعَمُّ ما يأتي به ياسين الحاج صالح، في صددِ المعارضةِ، رفضُهُ القاطعُ التعويلَ على الطائفيّةِ والطوائفِ في استطلاعِ مستقبلٍ يرجوه لسوريّة. فالطوائفُ– يقول – كلُّها "سيّءٌ"، بما هي حاملةٌ للسياسةِ، يسكُنُ كلّاً منها حلُمُ سيطرةٍ يستحيلُ، عندَ الإمكانِ، إلى حلُم إبادةٍ لا يختلِفُ جوهَراً عَمّا وضعَتْهُ الأسديّةُ موضِعَ التنفيذِ وإنّما ينقُلُهُ من موقِعٍ إلى موقِع. ولا يرى المؤلّفُ في الأكثريّةِ السُنّيةِ طائفةً وذاكَ لتفرُّقِ موائلِها ولشِدّةِ التغايُرِ في أوضاعِ الجماعاتِ المنتميةِ إلى مذهبِها، ولكنّه يرى فيها "أرخبيلَ طوائف". وهو يُبْرِزُ تنوّعَ ما يسمّيهِ "معارضةً موضوعيّةً" باختلافِ ما تواجِهُه من أنظمةٍ منوِّها بأنّ ما تستدرِجُهُ الطائفيّةُ الأسَديّةُ موضوعِيّاً إنَّما هو المعارضةُ ذاتُ الصفةِ "الإسلاميّةِ" بالأولويّة. وهو يعرِفُ حقَّ المعرِفةِ تبايُنَ ما تنطوي عليهِ هذه الصفةُ من توجّهاتٍ كان قد خَصّها بكتابٍ آخرَ حديثِ الصُدور[3]. ولكنّه يعْرِفُ أيضاً اشتِمالَ الطائفيّةِ على هذه التوجّهات وإن تنوَّعت مسالِكُها. ويستوقِفُه، بطبيعةِ الحالِ، بروزُ السَلَفيّةِ الجِهاديّةِ في الحربِ الجاريةِ في سوريّة فيَرُدُّ الجُنوحَ إليها وما تجنَحُ إليه من عُنْفٍ أقصى إلى إغلاقِ النظامِ ساحةَ السياسةِ بحيثُ استَدْرَجَ عنفُهُ هذا العُنْفَ بيْنَ ما استَدْرَج. ويَنْعَتُ الحاج صالح هذه الفئةَ من التنظيماتِ بِـ"الغيلانِ" مُبْرِزاً عَدَمِيَّتَها واستغناءَها عن السياسةِ بالحرب: تشنُّها على العالَمِ المعاصرِ جملةً بما فيه عامّةُ المسلِمين وتعتَمِدُ أسلوباً ما سَمّاهُ المُنَظِّرُ لها أبو بكر ناجي "إدارةَ التوحُّش".
تبقى معارضاتٌ أخرى، قائمةٌ أو محتملةُ القيامِ، لا ندخُلُ في تفصيلِها هَهُنا وإنّما نشيرُ إلى التَوَجُّهاتِ العَلْمانيّةِ، وهي موزّعةٌ بينَ مشاربَ عديدة. الأبْرَزُ منها عَلْمانيّةُ من ينْعَتُهُم المؤلّفُ بِـ"العالِمين" وجُلُّهم وجوهٌ بارزةٌ في الثقافةِ السوريّةِ الحاضرةِ ومعهم من يقولُ قولَهُم. هؤلاء (وبينَهم أمثالُ عزيز العظمة وجورج طرابيشي وأدونيس) يوجّهون معارضَتَهم نحو "المجتمعِ" بصفتِه الإسلاميّةِ الغالبة. وهم بهذا ينْحونَ نحْوَ تحييدِ النظامِ الأسديِّ ضاربينَ صَفْحاً عن مفاعيلِ طائفيّتِه وضراوةِ قَمْعِه (بل أيضاً عَمّا يسمّيه المؤلّفُ "استعمارَهُ الداخِلِيَّ" للبلاد) في ردِّ المسلِمين، لا إلى إسلامِهِم وحسْبُ، بل أيضاً إلى "إسلاميّةٍ" سياسيّةٍ أو حربيّةٍ تبعاً لاختلاف الأحوال. وأمّا تحييدُ النظامِ فيشفُّ في حالتِهم، في ما يرى المؤلّفُ، عن ممالأةٍ للفظاعةِ الأسديّةِ، ضمنيّةٍ في الأقلّ. ذاكَ نقدٌ حصيفٌ، لا بحُكْمِ المعاداةِ السياسيّة للنموذجِ الأسديِّ وَحْدَها، بل أيضاً بحُكْمٍ من اقترانِ العَلْمانيّةِ، في أصْلِها التاريخيّ، بتَصَدُّرِ "حرّيّةِ الضَمير". وهذا على الرغمِ من احتِمالِها، في مساقاتِ التاريخِ المُعاصِرِ أيضاً، صِيَغاً مختلفةً من الاستبدادِ والكُلّانيّة.
هذا ونَقَعُ على عَلْمانيّين آخرين (وهذا مشْرَبٌ آخر) يَسْتدعون لتسويغِ مُوالاتِهم، بحُكْمِ المنبتِ"اليساريِّ"، معاداةَ الإمبرياليّةِ وحليفِها الصهيونيّ. لكنّ هذين أظهَرا في الحربِ الجاريةِ حرصاً على بقاءِ النظامِ السوريِّ وعَزَفا كلَّ العُزوفِ عن الإفراطِ في إحراجِه، وإن يكونا عَمِلا بدأبٍ أيضاً على حراسةِ تهالُكِه وضَبْطِ خطاه. وقد استَفادت إسرائيلُ، في هذا المسعى، من مواطأةِ روسيا، حليفةِ النظامِ الكبرى. وهو ما يوحي بنوعِ الاعتبارِ الذي تقيمه للأسدِ ونظامِه (وهذا لا يتعرّض للإمبرياليّةِ ولا لإسرائيلَ بشَرٍّ يُذْكَر) لا روسيا وَحْدَها بل إيرانُ أيضاً، حليفةُ النظامِ الأخرى، وهي المستفيدةُ والمتضرّرةُ في آنٍ من السلوكِ الروسيّ.
وأمّا الآخِذون بمبدإ "حمايةِ الأقلّيّاتِ" (وهذا هَمٌّ غربيُّ المَنْشَإ، مُمالىءٌ تاريخيّاً للسَعْيِ الاستِعْماريّ) فلا تصِحُّ نسبتُهم إلى المعارضة أيضاً: هم يُوالون الأسَديّةَ من الغربِ ومن الشرقِ والمؤلّفُ يرى موقفَهم معزِّزاً للطائفيّةِ يواجِهُ بالمقتِ والعداءِ أكثريةَ السوريّين بما هي مصدرٌ مُقَدَّرٌ للخطرِ على الأقلّيّاتِ، منكِراً أن تكونَ هذه الأكثريّةُ نفْسُها عُرْضةً لخَطَرٍ هو المحقَّقُ الداهمُ وهو المنطوي على حمولةِ دمارٍلا يظْهَرُ له حدٌّ معلوم.
مُعْضِلةُ المَخْرَج
ما المَخْرَجُ؟ لا نقَعُ عندَ ياسين الحاج صالِح على مَخْرَجٍ حِسّيّ تّتّجِهُ نَحْوه، من حيثُ تقفُ سوريّة اليومَ، قوىً اجتِماعيّةٌ سياسيّةٌ، متشَكّلةٌ أو آخِذةٌ بالتَشَكُّل، تختبِرُ بالنِضالِ حظوظَها في شَقِّ الطريقِ إلى هذا الذي تَراهُ مخرجاً. وإنّما يعتَصِمُ المؤلّفُ بنبْذِهِ الصيغةَ الطائفيّةَ للحلِّ (على اختلافِ المنطلَقاتِ والصُوَرِ) شاهِراً عَلْمانيّةً مبدَئيّةً يريدُها، بِخِلافِ الآنفةِ الذِكْرِ، مقاومةً في آنٍ للنِظامِ الأسَديّ، بأبَدِهِ السُلْطانيِّ وطائفيّتِه المدَمِّرة، ولمطامِحِ أعدائه الظلاميّين في الحربِ الجارية.
لم يَبْقَ في الساحةِ السوريّةِ، بَعْدَ ما عَصَفَ بها من إبادةٍ وسَجْنٍ وتشريد، ما يصِحُّ اعتبارُهُ كُتْلةً تاريخيّةً معبّأةً للاضطلاعِ بعِبْءِ هذه المواجهةِ المزدوجةِ، وهو عبءٌ زادت أطوارُ الحربِ وتَزاحُمُ اللاعبين الكبارِ في ميدانِها من ثِقْلِهِ على نَحْوٍ فادِح. ولا يُخْفي ياسين الحاج صالح أنّ التجربةَ الوطنيّةَ السوريّةَ مضطربةُ الأركان أصْلاً وحديثةُ العهدِ ولا أنّ النظامَ الأسديَّ كان يدفَعُ المجتَمَعَ بعيداً عن الأخْذِ بالمِثالِ الديموقراطيّ ويضرِبُ الشروطَ البنيويّةَ العامّةَ للسَعْيِ إلى هذا الأخيرِ ولإرسائه.
فَهَل كانَ في مَدِّ الثورةِ السوريّةِ السِلْمِيّ في أوائلِها ما يرجّحُ، مع ذلك، ولادةً ما للكتلةِ التاريخيّة المُشارِ إليها تَوّاً؟ اتّخَذتْ تلك الثورةُ، (وكانَ ياسين الحاج صالح واحداً من الناطقينَ الخُلَّصِ بلسانِها) لظُهورِها في الساحاتِ شعارَي "الحرّيّةِ" و"الكَرامةِ"، وهذا، في حالَتِها، جامعٌ مانِع. وقالت أيضاً إنّها ترى الشعبَ السوريَّ "واحداً" وهذا ضَمانٌ لمُكَوّناتِه المختلفةِ وردٌّ على التمييزِ الطائفيِّ وعلى منطقِ العصبيّاتِ من مذهبيّةٍ وغيرِ مذهبيّة. أضافت أخيراً أنّ "سوريّة لينا وما هي لبيت الأسد"، وفي هذا إدراكٌ مباشِرٌ لماهيّةِ السُلطانيّةِ المُحْدَثةِ وخلاصةٌ لكتابِ ياسين الحاج صالح برُمّتِه! فهل كان هذا المنحى سيصْمُدُ ويتعَزّز ويفرضُ غلَبَتَه لو بقي ردُّ النظامِ في حدودِ الاحتِمالِ، على غِرارِ ما شهِدَتْهُ تونسُ مَثَلاً وحتّى مصرُ، وأمكنَ تجنّبُ العَسْكَرةِ وما جرّتْهُ من استنفارٍ، في الداخل والخارج، لقوىً متواجهةٍ معلومةِ الأدوارِ والمصالح؟ الجوابُ محتاجٌ، في ما نُرَجّح، فَضْلاً عن تدَبُّرِ المعطَياتِ العامّةِ المعروضةِ، إلى استقصاءٍ تفصيليٍّ، اجتماعيٍّ سياسيٍّ، لمَواقعِ الثورةِ السلميّةِ وقُواها وأفعالِها يتوسّلُ، في ما يتوسَّلُ، ما خلّفَتْهُ الثورةُ من كلامٍ مدَوّنٍ وأشرطةٍ وصُورٍ وهو هائلُ الأحجام. ففي هذا وحدهُ ما يجلو حقائقَ الإمكاناتِ والتوجّهاتِ، على اختلافِها ويأذَنُ بإسنادٍ جدّيٍّ لِما يُرى مُحْتَمَلاً أو متوقّعاً أيّةً كانت وجهتُه. لم يَظْهرْ، على حَدِّ عِلْمِنا، من حصادٍ ينتَسِبُ إلى هذه المهمّةِ الضخمةِ (وهي بالضَرورةِ شأنُ مبادِرينَ كثيرينَ تتنوّعُ مواقعُهُم وخططُهُم) سوى نُثارٍ تتوزّعُه تحقيقاتُ الصحُف وأعمالُ المؤلّفين، وهو ما قد يتعيّنُ ضَمُّه إلى الوثائقِ موضوعِ الاستقصاء.
وإلى أن تتبيّنَ الحظوظُ التاريخيّةُ للمخرَجِ العَلمانيِّ، بصيغتِهِ الديموقراطيّةِ الوطنيّةِ المجسّدةِ في حقوق المواطنةِ وحُكْمِ القانونِ (وهذا كلّه ساطِعُ الحضورِ، بما هو معيارٌ صريحٌ أو مُضْمَرٌ للنقدِ السياسيِّ، في طولِ كتابِ ياسين الحاج صالِح وعَرْضِهِ) يبقى مشروعاً كلّيّاً أن يعَيّنَ الباحثُ – أيُّ باحثٍ– ما لا يَرى غيرَه مخرجاً لمجتمعٍ ودولةٍ عالقَيْن في شباكِ الخَرابِ والموت. ولكنّ الباحثَ مضطرٌّ إلى الإقرار، مع هذا، بأنّ ما لا يُجادَلُ في ضرورتِهِ لا يحصُلُ بالضرورة فعلاً إذْ يُحْتَمَلُ أن تَحولَ حوائلُ لا تُرَدُّ دُونَ تحصيلِهِ قُواه وفرصتَه التاريخيّة.
الهيكليّةُ والمعياريّةُ، البِنى والأفعال...
نُريدُ، في الختامِ، أن نُكَرّرَ الإشارةَ إلى الصفتين الهَيكليّةِ (المتمثّلةِ بالثُنائيّاتِ) والمعياريةِ (المتمثّلةِ بالغائيّةِ النقديّةِ أو النضاليّةِ للتحليلِ وباعتِمادِهِ معياراً مركّباً: فيه المجتمعُ الوطنيُّ وفيه الدولةُ الديموقراطيّةُ بما تنطوي عليه من سيادةٍ لقانونٍ يحفظُ حقوقَ المواطنة...) وقد تفضي الصفةُ الأولى إلى شعورٍ يساورُ القارئَ الضئيلَ الإلمام بالوقائعِ السوريّةِ بحاجةِ ما يَقْرأُ إلى مغادرةِ التجريدِ الهيكليِّ شيئاً ما لِعرضِ مزيدٍ من القرائن والوقائع. والراهنُ، في ما يتعدّى هذا الشُعورَ، أنّ الكتابَ، بهيكَلِيّتِهِ هذه، يفتَحُ أبواباً لبحوثٍ فرعيّةٍ كثيرةٍ ويقتَرِحُ خريطةً ضمنيّةً تتوزَّعُ بحسبِ خُطوطِها تلك الأبحاث.
من حيثُ الأصلِ، وأنّه مألوفٌ أيضاً يجاري تيّاراً معتبَراً في علومِ المجتمَعِ المعاصرة. ولَكِنْ يبقى أنّ البِنى إنَّما تتَحَوّلُ وفاقاً لإمكاناتِها ولِما يمدّها به تاريخُها من خيارات. والمؤلّفُ نفسُهُ يشيرُ إلى ما تورِثُهُ أفعالُ النظامِ من "تصَلُّبٍ" يَعْرو الطوائف. غير أنّه يتجاوزُ عن كونِ هذا التصَلُّبِ يتَمَثّلُ عادةً في... بِنىً تتَّخِذُ أذرُعاً مؤسَّسيّةً أو تنظيميّةً وتغدو مقاوِمةً لأفعالِ الخارج إذا هي خالَفت "برنامَجَها" وأنّ هذه المقاومةَ لضُروبٍ بعينِها من التغييرِ يسَعُها أن تصبِحَ شرسةً جدّاً متى شُفِعت بما يوافِقُها من موارِدَ يَعْرِضُها "المقدّس". وهو ما لا يسْعِفُ كثيراً (ونحن في حديثِ جماعاتٍ تلْبَثُ موصوفةً بمذاهِبِها الدينيّةِ فضلاً عن أوصافِها الأخرى) في تَبْرئةِ الدينِ، أصولاً وثقافةً، من أفعالِ مع تَنِقيهِ هؤلاء.
في الشَكْلِ، يشعُرُ القارئُ بوَطْأةٍ ما لِما في الكتابِ من تَكْرار. ولكنّ هذا (أو بعضَهُ، في الأقلّ) منتَظَرٌ في مجموعِ مقالاتٍ تدورُ على محورٍ عامٍّ واحدٍ ولَمْ تَكُنْ منذورةً للجمعِ عند وضْعِها وقد توزّعَ وضْعُها على سنواتٍ عديدةٍ. يفتقِدُ القارئُ مزيداً من المصادِرِ في الهَوامِش، وكان يحْسُنُ أن تُدْرَجَ أيضاً في مكتبةٍ للعَمل. ويفتقد أخيراً فِهْرِساً للأعلام وأهَمُّ منه فِهْرِسُ الموضوعاتِ لو وُجِد. وأمّا التصحيحُ والإخراج الطباعيّان فجَيّدان. وأمّا الغِلافُ، وهو لعَزّة أبو ربعيّة، فمُوحٍ للغاية.
يبقى أنّ هذه العجالةَ فاتَها كثيرٌ، لا ريبَ، من حمولةِ هذا الكتابِ المتوهّجِ (بنارِ الغضبِ وبنورِ الحَصافةِ والتَمرُّس)... فَلْيُقْرأ الكتابُ إذن!
[1] ياسين الحاج صالح، السلطانُ الحديث: في الطائفيّةِ وخَصْخَصةِ الدولةِ وفي أزمةِ الوطنيّةِ والمواطنةِ في سوريّة، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت 2020، 368 صفحة.
[2] في الكتاب إشاراتٌ متفرّقةٌ إلى الحالةِ اللبنانيّة. وهي تفتحُ كوىً لمقارنةٍ عامّةٍ ما بين الطائفيّتين السوريّةِ واللبنانيّةِ وما بين النظامين... ولكنّ هذا حديثٌ قائمٌ برأسِه... وهو يطول.
[3]ياسين الحاج صالح، الإمبرياليّون المقهورون: في المسألةِ الإسلاميّةِ وظُهورِ طوائف الإسلاميّين، رياض نجيب الريّس للكُتُبِ والنشر، بيروت 2019.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها