السبت 2019/07/13

آخر تحديث: 12:49 (بيروت)

سعود المولى... ثلاثون عاماً على رحيلك يا أنور(*)

السبت 2019/07/13
سعود المولى... ثلاثون عاماً على رحيلك يا أنور(*)
increase حجم الخط decrease
في مساء الخميس 13 تموز 1989 اغتالت المخابرات الإيرانية الصديق الحبيب والرفيق الصادق والأخ الكبير فاضل ملا محمود رسول (أنور)، ومعه رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني في إيران عبد الرحمن قاسملو، ونائبه عبد الله قادري آزر.

كان فاضل رسول يعمل في ذلك الوقت على الحوار بين الأكراد والإيرانيين وبين الأكراد والأتراك، وذلك من منطلق ايمانه العميق بضرورة إنهاء الصراع في المنطقة، وعمله مع غيره على بناء مشروع حضاري مشترك. وقد نجح في عقد الاجتماعات الحوارية في شقته بفيينا. كان عمله هذا نتيجة جهود دؤوبة قام بها طوال سنة حتى توصل إلى موافقة الطرفين على الحوار وحصل على تكليف رسمي من الأكراد كما من المسؤولين الإيرانيين. لكن الغدر كان له بالمرصاد فقامت المخابرات الإيرانية بقتله هو والدكتور عبدالرحمن قاسملو ونائبه، مساء ذلك اليوم من تموز وكان أول أيام عيد الأضحى.

كان الشهيد فاضل يحلُم بشرق موحّد، في مشروع حضاري يحتضن العرب والأتراك والإيرانيين والأكراد وكل الآخرين من أبناء وبنات هذا الشرق.

وبما أنه كان كردياً (ولد بالسليمانية العام 1949)، وتربى بثقافة متنوعة كردية، وعربية، وفارسية، فقد بنى جسوراً ثقافية مبكرة بين هذه العوالم الثقافية الحضارية، ساعده في ذلك شخصيته الفذة وروحه الإنسانية وأخلاقه الرفيعة.



بدأ فاضل رحلته الفكرية والسياسية وهو فتىً يافع. فقد انتمى الى الحزب الشيوعي العراقي في مقتبل عمره (13عاما) ثم ترك صفوف الحزب أواخر ستينيات القرن العشرين بعد انهيار حركة الكفاح المسلح بقيادة الشهيد خالد زكي في الأهوار. وأسس مع زملاء آخرين له جماعة (وحدة القاعدة) والحزب الشيوعي-القيادة المركزية (التي كان من بينها الدكتور عادل عبدالمهدي ومظفر النواب). في تلك الأثناء كان فاضل ورفاقه متأثرين بالفكر الماوي معارضين لإمبريالية الاتحاد السوفياتي داعمين للحرب الشعبية طويلة الأمد.

في منتصف السبعينيات لجأ فاضل رسول (وعادل عبد المهدي) إلى أوروبا الغربية، وأقام في النمسا وأكمل دراساته العليا، فحصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية بـ (برلين) عن أطروحته بـالالمانية (تدخل القوى العظمى: الاتحاد السوفيتي والقضية الكُردية) ثمّ أصبح أستاذا في إحدى الجامعات في فيينا.

تعرفت عليه وعلى عادل عبد المهدي في بيروت عام 1973 وكانا يحضران من أوروبا (باريس وبرلين وفيينا) للإشراف على عمل حزبهم والتنسيق مع الماويين اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين.

انخرط فاضل في الحركة الوطنية الكُردية مبكرا ضمن صفوف الحزب الديموقراطي الكُردستاني. وشارك مع عادل عبد المهدي وجلال طالباني في تأسيس البدايات الأولى للاتحاد الوطني الكُردستاني أواسط السبعينيات من القرن الماضي.

في العام 1977 حدث انقلاب فكري في مسار فاضل رسول ورفاقه الماويين (ومنهم نحن اللبنانيون) حيث طلّقنا التجربة الحزبية اليسارية وانهمكنا كل من موقعه في مراجعة التجربة وبلورة مشروع تغيير جديد يجمع بين اليسارية العلمانية الثورية والإسلامية الحضارية التغييرية. أصدرنا معا نشرة ماوية نظرية باسم (الوعي)(صدر منها ثلاثة أعداد 1977)، وجريدة سياسية باسم الكلمة (وحدة الكلمة وكلمة الوحدة) (صدر منها عشرة أعداد 1977)، ثم جريدة "الوحدة" السياسية التحريضية الأسبوعية (وأحيانا صدرت يومية في صفحتين) التي صدرت طوال أعوام 1977-1979 وكانت بإدارة أصدقاء انضموا إلينا من حزب البعث الديمقراطي (جماعة شباط أو صلاح جديد). تلاها مجلة الوحدة (ثقافية فكرية) صدر منها ستة أعداد بوتيرة كل شهرين 1979-1980) لم تعمر هذه النشاطات طويلا إذ جاءت الثورة الإيرانية لتفتتح زمنا جديدا.

انشغل فاضل مثلنا في النشاط الفكري والثقافي الناجم عن الأفق الجديد للحركات الاحتماعية . فألّف كتباً وترجم أخرى مثل: "تاريخ الحركة الثورية في إيران"، "النفط والثورة"، "ايران غربة السياسة والثورة" لبني صدر، "الحد الفاصل بين السياسة والدين" لمهدي بازركان، ولاحقاً كتابه الشهير "هكذا تكلّم علي شريعتي" الذي كان أول تجميع وقراءة نقدية لفكر شريعتي بالعربية.

عاد فاضل يقرأ تاريخ الأكراد والمنطقة عموماً من زاوية أوسع، أي من حيث البنية التكوينية للصياغة التاريخية لمنطقتنا في خلال أربعة عشر قرناً. كانت رؤية فاضل للتعدد الاثني قائمة على انها كانت موجودة منذ القدم وصاغها الاسلام برحابة ويسر، لكنها تتأزم اثناء التدخل الخارجي.

الإسلام، كما يرى فاضل، لم يلغ الهويات المتعددة الاثنية والدينية والمذهبية. ومن هذا الباب طرح فاضل في المجلة التي أسسها بين فيينا وباريس عام 1985 (الحوار) (والتي شاركته في تحرير أعدادها الثمانية الأولى من باريس قبل انتقالها إلى بيروت باسم "منبر الحوار" برئاسة الصديق وجيه كوثراني) جملة محاور أساسية لقضايا الشرق تمثلت في ضرورة تكوين الحوار بين الاتجاهات المختلفة، حل القضايا القومية (كالقضية الكُردية) سلمياً، وانهاء الصراعات الداخلية التي كان فاضل يرى انها تدخل المنطقة في دائرة مميتة، وهي بالتالي تجلب الاحتلال الخارجي الذي يسبب الكوارث الكبرى للاجيال.

ومن هذه الزاوية كان يحلل تقسيم كُردستان كمؤامرة خارجية لاستنزاف المنطقة، عبر إدامة الصراع. 

عمل فاضل وجاهد من اجل حل القضية الكُردية في الدول التي تقتسمهم، سلمياً، ضمن التوجه العام لوحدة المنطقة حضارياً في وضع شبيه بالاتحاد الاوروبي اليوم. وعلى الرغم من انه لم يكن يؤمن بالحكم الذاتي كحل نهائي للقضية القومية، لكن فاضلاً اعتبره خطوة جيدة لانتعاش الثقافات المضطَهَدة، والتي رأى فاضل انها روافد غنية تصبّ في الثقافة المشتركة لشعوبنا. لكن فاضل رسول كان قلقاً جداً من قلّة الوعي العام لابناء المنطقة ـــ بمختلف انتماءاتهم ـــ ازاء مخاطر الهيمنة الخارجية، السياسية والثقافية. يعلل فاضل قلّة الوعي هذه بالاستغراق في الصراعات الداخلية الاستنزافية التي تعيش على العصبيات والعنصريات.

في مقال له بمنبر الحوار، بعنوان: حول دور المؤثر الخارجي في تطورالمسألة القومية والطائفية، عدد 11 خريف 1988، يشير فاضل الى مخطط اسرائيلي ــ امريكي لتفتيت المنطقة الى كيانات صغيرة ومتناحرة، ويضرب المثال بالعراق و أن المخطط الخارجي يهدف الى تفكيكه الى ثلاثة كيانات متنازعة: شيعي وسني وآخر كُردي. الامر كذلك بالنسبة الى لبنان وسوريا وتركيا ودول أخرى. ومن هنا فان طرح فاضل بالنسبة الى كُردستان كان نابعاً من قراءة استراتيجية للمنطقة بشكل عام. وعلى هذا الاساس كان يرى استقلال كُردستان وتوحيد الشعب الكُردي، المجزأ، ضرورة حتمية ضمن توحيد المنطقة حضارياً في تنوع منسجم ومتآزر. واعتبر بقاء الوضع الكُردي عالقاً دون حلّ، بوّابة مفتوحة امام القوى العظمى الطامعة في التدخل في المنطقة، واستغلال الصراعات فيها وبالتالي نشوء عوائق كبيرة امامنا للنهوض.
في ما يخص مسألة الدين وقف فاضل ضد التعصب والتطرف الديني، وكان يرى ان الدين بطبعه يرفض التطرف لأنه يخالف فطرة الانسان السليمة، والتي جاء الدين اليها لتربّيها بلطف ويسر. ولعلّ تأليفه كتابا عن علي شريعتي، المفكر الايراني المشهور، جاء لتأصيل مفهوم الحوار والتسامح والانفتاح بين ابناء المنطقة على اختلاف الاديان والمذاهب والقوميات. 

ومن هنا كان يرى فاضل ضرورة وجود الحوار بين التيارات الفكرية العلمانية والدينية والقومية في دائرة سمحة وحضارية. ومن هذا الباب يعود فاضل للتذكير بالتدخل الخارجي المخرِّب في منطقتنا بذرائع كثيرة اهمها الصراعات الداخلية. ففي كتاب له باللغة الألمانية عن القوى العظمى وتدخلاتها في الشرق، ضمن الصراع الذي كان قائماً بين الاتحاد السوفيتي السابق والغرب الرأسمالي بقيادة اميركا، يشرح فاضل بالتفصيل مواقع الضعف الشرقي وعوائق النهوض الحضاري. هذه الآلام الفكرية دفعت بفاضل الى الاندفاع الكلّي نحو حوار جدّي وليس ذلك الحوار المنافق الذي يملأ الصحف والشاشات بهوّامات وفراغات. وهكذا فقد رتب فاضل حواراً هاماً وجديّاً بين العلمانيين والاسلاميين والقوميين في مطلع عام 1989 في محاولة بلورة فكرية وعملية، يعتبرها المفكر اللبناني وجيه كوثراني المحاولة التأسيسية الأولى للحوار بين الاتجاهات الفكرية والسياسية المختلفة في الشرق. يُشير وجيه كوثراني ان الحوار الذي كان امنية قريبة من الخيال في الثمانينيات والتسعينيات استطاع فاضل ان يجسده في الواقع رغم صعوبات الظروف. شارك في جلسة القاهرة أحمد كمال أبو المجد، عادل حسين، محمد عمارة، طارق البشري، فهمي هويدي، عصمت سيف الدولة، محمد سليم العوا، علي الدين هلال، سعدالدين ابراهيم وآخرون... وتبناها محمد مهدي شمس الدين وأحمد بن بللا. بعد استشهاد فاضل استمر الشيخ شمس الدين يجمع محاوري القاهرة كل سنة في منزل الصديق الدكتور محمد سليم العوا ومعه الشيخ محمد الغزالي.

في الواقع لم تكن علاقة فاضل بايران علاقة ودية دائمة، تماما مثل حالنا نحن أيضا في تلك الأيام التي كتب السيد هاني فحص تفاصيلها . فبالرغم من توجه فاضل الاسلامي (المنفتح جداً) الا ان الإيرانيين لم يكونوا ليتعاملوا معه بمحبة ووضوح. فعلي شريعتي الذي كتب عنه فاضل كان ضد التعصب الشيعي وكان معارضاً للصفوية كفكر وكنمط. ناهيك عن صلة فاضل ببني صدر ومهدي بازركان ثم بالشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي احتضن مجلة منبر الحوار وكل مبادراتنا. كذلك فقد كان فاضل ضد استمرار الحرب مع العراق وكان يدعو الى حقوق القوميات والطوائف داخل ايران. بالاضافة الى عامل مهم في مسار فكر فاضل انه عاد الى الدائرة الاسلامية كفكر وتاريخ قبل الثورة الايرانية بأعوام (مثلنا نحن) وعبر تجربته الثورية الخاصة القائمة على الاستقلالية والمبدئية والاستقامة على الحق والعدل. فلم يحصل فاضل رسول على شئ من الجمهورية الإسلامية سوى الرصاصات التي أنهت حياته.

(*) مدونة كتبها الباحث سعود المولى في صفحته الفايسبوكية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها