الجمعة 2019/04/26

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

الهجرة: قصتان من لبنان

الجمعة 2019/04/26
الهجرة: قصتان من لبنان
روى بطرس لبكي هذه الشذرات من سيرته العائلية في مناسبة صدور كتابه "هجرة اللبنانيين"
increase حجم الخط decrease
ثروة آل لبكي الضائعة
(*) في أربعينات القرن التاسع عشر، كان والد جدي لأبي، إلياس ناصيف لبكي، يملك كرخانة حرير صغيرة في قريته ومسقطه بعبدات. وكان ابنه البكر، ناصيف، هاجر إلى أضنة في تركيا، فأثرى هناك من عمله في تجارة القطن إبان ازدهار زراعته وإنتاجه في الديار التركية ومصر، لتصديره إلى أوروبا بعد انهيار زراعته في الولايات المتحدة أثناء الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865). أما شقيق المهاجر، جدي بطرس لبكي، المولود سنة 1856، فنشأ في بعبدات مغرمًا بالطب، وأراد دراسته في الكلية الإنجيلية السورية (الجامعة الاميركية لاحقًا) في بيروت. لكن والدته حالت دون رغبته، خائفة من ابتعاد ابنها الثاني عنها بعد هجرة الأول وابتعاده. وتعويضًا منه عن رغبته الملجومة تلك، تعرّف جدي في مطلع فتوته على رجل من آل فوّاز يعمل طبيبًا عربيًا جوالًا، فراح يتنقل معه ويتعلم منه مهنته التقليدية ويساعده فيها.


بعد وفاة أمه وزواج والده ثانيةً، غادر جدي بعبدات إلى بيروت. وبما لديه من مال أدخره من عمله مع والده محاسبًا في كرخانة الحرير، تمكن من تحصيل تعليم أهّلَهُ للدخول إلى الكلية الإنجيلية السورية في بيروت، فدرس الطب والجراحة فيها وتخرج منها بعد أربع سنوات. لمعادلة شهادته والحصول على إجازة (كولوكيم) تخوّله ممارسة مهنة الطب، سافر إلى اسطنبول، فحصل منها على الإجازة. وفي طريق عودته إلى لبنان، زار أخاه المهاجر في أضنة، فإذا به وافر الثراء والأعمال والأملاك من عمله في تجارة القطن وتصديره إلى أميركا، إلى جانب تصديره أخشاب الغابات إلى مصر لاستعمالها في تدعيم الرمل وتثبيته في حفريات قناة السويس.

قرر جدي البقاء والعمل في أضنة وكان ذلك في العام 1878. إضافة إلى عمله طبيبًا في المستشفى البلدي، شرع في أعمال كثيرة: أنشأ مصنعًا لحلج القطن، وآخر لألواح الثلج، واشترى عقارات بنى عليها بيوتًا ومتاجر أجرها، وتملك أراضي زراعية على نهر أضنة جعلها بساتين برتقال وكروم عنب، وأسس مع شريك له يوناني شركة مقاولات وأشغال عامة، أفلست في ما بعد.

متأخرًا، في مطلع الثلاثينات من عمره، عاد جدي إلى مسقط رأسه بعبدات، عازمًا على الزواج، فاختار صبية تنتسب إلى عائلة لحود المتفرعة من آل لبكي. كانت تلك الصبية أمية، لأن الأهالي آنذاك ما كانوا يعلمون بناتهم بعدُ. لذا تعهد تعليم زوجته المرتقبة سنة في مدرسة الراهبات اللعازاريات في بيروت. فطبيب ورجل أعمال مثله لا يناسبه ولا يجوز أن تكون قرينته أمية. وفي أضنة أنجب الزوجان أبناءهما وبناتهما السبعة، فبعثا بعضهم إلى لبنان للتعليم في مدارسه، ولتحاشي تجنيد الذكور منهم في الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش العثماني. وفي هذه الأثناء تعاظمت ثروة والدهم، جدي بطرس لبكي الذي توفي عشية الحرب العالمية الأولى عن 57 سنة عام 1913، فنقل والدي رُفاته في خمسينات القرن العشرين من أضنة إلى مدفن العائلة في بعبدات.

في سنوات الحرب الأولى تسلم نصري لحود، صهره، زوج إحدى بناته (ابن خالها)، إدارة ثروة جدي الكبيرة. فأرملته كانت قد زوجت ثلاثًا من بناتها اللواتي تعلمن في مدرسة سان جوزف دوليون في أضنة، من أبناء إخوتها، أحدهم نصري الذي حملته رغبته في الاستيلاء على ثروة الراحل على إرسال أحد أبنائه (نعيم) إلى الخدمة العسكرية في الجيش العثماني للخلاص منه، فيما كان أخوه، والدي، لا يزال في سن الثالثة عشرة بعد، ويتلقى تعليمه في المدرسة الوطنية في بعبدات.

شطر من الثروة التي استولى عليها نصري لحود استغلها في شراء الأراضي المتهاودة الأسعار في بعبدات أثناء الحرب الأولى (1914-1918)، واستغل أيضًا ظروف المجاعة في لبنان في تجارة القمح مع جمال باشا قائد الجيش العثماني الرابع، وكان يملك مع إخوته مصنعًا للحرير وتجارته، فجمعوا من هذا كله ثروة طائلة.


ما تبقى من أملاك جدي في أضنة استولت عليه السلطات التركية بعد الحرب، أسوة بأملاك المهاجرين الأرمن واليونانيين في تركيا التي قامت دولتها القومية على انقاض الإمبراطورية العثمانية. وما أصاب ثروة جدي وأملاكه من استيلاء وتناثر في الحرب الأولى وبعدها، ترك عائلته التي عادت إلى بعبدات خالية الوفاض، ومنهم والدي الذي استطاع تحصيل منحة دراسية من الجنرال غورو، المندوب السامي الفرنسي الأول على لبنان وسوريا. تحصّل على تلك المنحة في الفوج الأول من شبان لبنانيين ابتعثتهم سلطات الانتداب الفرنسي لدراسة الهندسة الزراعية في المعهد الزراعي في مدينة مونبلييه جنوب فرنسا. وسنة 1923 عاد والدي إلى لبنان مهندسًا زراعيًا في التاسعة عشر من عمره، فوظفته الإدارة الانتدابية في وزارة الزراعة اللبنانية الناشئة حديثًا، فعمل في إدارة شؤون انتاج الحرير. وقبل زواجه متأخرًا في السادسة والثلاثين من عمره سنة 1940، تنقل كثيرًا في عمله وفي مناطق لبنان: رئيس دائرة الزراعة في البقاع، ودائرة المالية في بيروت، مدير بنك عقاري فرنسي في يروت، ورئيس مصلحة الريجي (إدارة حصر التبغ والتنبك في سوريا ولبنان)، ومديرها بعد سنة 1946.

كان والدي يتقن لغات خمسًا، التركية والفرنسية والإنكليزية والألمانية، إلى العربية. وكان كثير الأسفار إلى خارج لبنان والتنقل فيه بحكم عمله، فيصطحبني معه أحيانًا ويكثر من راوية ذكرياته لي عن حياته طفلًا وفتى في أضنة، وعن مشاهداته في أسفاره ورحلاته، وعن الهجرة والمهاجرين وأنسابهم العائلية. وعلى الرغم من أن السلطات التركية سلبته أملاك والده، ومنها الأراضي التي تقوم عليها قاعدة أنجرليك العسكرية الأميركية، غير بعيد من أضنة ونهري سيهان وجيهان في غرب تركيا، كان يحمل في صدره تقديرًا وحنينًا إلى الإمبراطورية العثمانية المتعددة الأقوام والإثنيات والأديان واللغات، عربًا وأتراكًا مسلمين، وأرمن ويونانيين ومسيحيين كاثوليك وموارنة ولاتين وسريان وكلدان وآشوريين... حتى إنه كان يخبرني عن خدمته قداديس سبعة في كنائس متنوعة نهارات الآحاد في أضنة.

على الرغم من المصائب التي حلت بعائلته، ظل والدي يحن إلى السلطنة العثمانية. وقد تكون عن والدي وأحاديثه وروايته ذكرياته وتراث عائلته المحلي والمهاجر، وكذلك عن تراث عائلة أمي الأقدم والأوسع في هجرتها وتنقلها بين مدن حوض المتوسط منذ القرن الثامن عشر، تحدّرت إليّ ذائقتي وشففي في تقصّي سكك المهاجرين اللبنانيين وهجراتهم وعائلاتهم واختلاط انسابهم واقتصادات الهجرة وآثارها في المجتمع اللبناني.

وسنة 1925 قرّر والدي استعادة أملاك والده في أضنة، فسافر إليها وتقدم بدعوى قضائية ضد الحكومة التركية لاستعادة تلك الاملاك، وحجته في ذلك أن عائلته التي كانت مستوطنة في أضنة ليست مثل المهاجرين الأرمن واليونان، بل كانت من رعايا السلطنة العثمانية ومواطنيها، وأصبحت لبنانية وفي لبنان بعد انهيار السلطنة وتقسيمها. ربح والدي الدعوى، لكن السلطات التركية استأنفت الحكم ونفت القاضي الذي أصدر حكمه في القضية إلى أرضروم في أقاصي تركيا الشرقية على حدود أرمينيا. وراحت الاحكام والممطالات القضائية تتناسل، فلم يحصّل والدي سوى 20 في المئة من أملاك والده في أضنة، فراح يبيعها نتفًا متفرقة، ويهرّب أثمانها المالية من تركيا إلى لبنان في علب تبغ الينيجي والبافرا التي تنتجها الريجي، إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية. وذلك لأن السلطات التركية كانت تحظر إخراج العملة من أراضيها. وما حصله والدي من حصته اشترى به أراضي في بعبدات ليست سوى فتاتٍ من أملاك والده السليبة في أضنة. وفي العام 1983 سافرتُ إلى اسطنبول وأضنة لمتابعة ما تبقى من شؤون الدعوى والأملاك، فوجدت أن أحد الوكلاء هناك كان قد باع خلسة البقية الباقية.

هجرات آل زلعوم وثروتهم
تعود أصول عائلة أمي البعيدة إلى آل زلعوم الحلبية في القرن الثامن عشر. وفي العام 1720 تقريبًا هاجر فرع منها إلى مدينة ليفورنو التوسكانية الإيطالية، فاستوطنت هناك، وصارت كنيتها العائلية دزالوم في الإيطالية. ومن بواعث هجرة ذلك الفرع من عائلة زلعوم الحلبية، أن دوق توسكانا إبان ازدهار تجارة المدن الإيطالية وتنافسها، أخذ يستقدم من الديار المتوسطية والأوروبية تجارًا متنوعي الأعراق والأديان: يونانيون وأرمن وروم كاثوليك وأرثوذوكس وبروتستنت ويهود، فاستوطن أولئك التجار واندمجوا في مجتمع ليفورنو التجاري الكوزموبوليتي. وكان هدف الدوق التوسكاني تنشيط ليفورنو ميناءً تجاريًا لتوسكانا وتحريرها من سيطرة بيزا ومينائها. وعندما سافرتُ إلى تلك المدينة الإيطالية مقتفيًا أثر عائلة زلعوم، وجدت في مقبرتها قبرًا مدونًا عليه اسم مارينا دزالوم، وأن أصولها تعود إلى جرابلس على الفرات، والتي كان الإيطاليون يعتبرونها إيرابلس الرومانية. لكن حقيقة الأمر أن تلك أصول عائلة زلعوم تعود إلى حلب، على ما بيّنت لي وثائق حصلت عليها.

والد جدي لأمي، لويدجي دزالوم، كان يملك مصرفًا في ليفورنو. وبعد موت زوجته المبكر هناك، جذبه إزدهار مدينة بيروت بعد حوادث 1840-1860 الدامية في لبنان وسوريا، فهاجر إليها، وأسس فيها مصرفًا وتملك أرضًا في رأس النبع مكان ما عرف لاحقًا بشارع عمر بن الخطاب، وبستانًا في منطقة المدور، واستعاد كنية العائلة القديمة زلعوم، على الرغم من جهله اللغة العربية.

أحد أبنائه، جدي لأمي، درس علوم الصيدلة في جامعة القديس يوسف في بيروت مع الشيخ يوسف الجميل، عم الشيخ بيار الجميل، ومؤسس صيدلية الجميل في ساحة البرج. وكان منزل جدي في رأس النبع، وفيه ولدت أمي سنة 1914. وفي مطلع عهد الانتداب الفرنسي، استبدلت سلطات الانتداب العملة الفضية والذهبية العثمانية بالعملة الورقية السورية وربطت قيمتها بالفرنك الفرنسي الذي تسبب انهياره بانهيار بنك آل زلعوم البيروتي، فباع جدي لأمي حصته منه ومن أملاك والده، ثم هاجر إلى الاسكندرية، فأسس فيها مصنعًا للصابون أفلس بعد سنوات عشر.

تعلمت أمي وأخواتها في مدارس إيطالية في الاسكندرية، إبان حقبة صعود الفاشية في إيطاليا موسوليني. وسنة 1935 مات والدهم، جدي، في الاسكندرية، فأرسلت أرملته، بناتها، ومنهم أمي، لمتابعة دراستهم في بيروت، فأقاموا في منزل عمهم في رأس النبع. ولم تلبث جدتي أن زوجت أثنتين من بناتها، خالتيّ، من شقيقين من آل المدور يكبرانهما بأكثر من عقدين من السنوات.

كان آل المدور من كبار التجار والملاك العقاريين في عهد الانتداب الفرنسي على لبنان، وهم سريان كاثوليك هاجروا من الموصل العراقية إلى دمشق، ثم إلى بيروت. الشقيقان المدور، قبل زواجهما من خالتيّ، كانا قد هاجروا إلى الهند وجيبوتي وتاجرا بالبهارات والتوابل، وحصّلوا ثروة كبرى قبل عودتهم إلى لبنان، وتأسيسما مصنعًا للقرميد في الجديدة كان الأضخم في الشرق الأوسط، إضافة إلى معمل للزجاج، واشتروا أراضي واسعة لاستخراج التراب الصالح لصناعة القرميد. وإحدى بنات أخيهما تزوجت الحقوقي والنائب الحلبي الأصل، إدمون رباط، بعدما استقدمه آل مدور من حلب إلى بيروت.

ومن منزلهما في رأس النبع استقدمت خالتاي، زوجتا الشقيقين مدور، أمهما وشقيقتهما، (أمي)، للإقامة معهما في الجديدة حيث تعرف والدي على أمي واقترنا سنة 1940.

الهجرة ومساراتها المعولمة
روى بطرس لبكي هذه الشذرات من سيرته العائلية في مناسبة صدور كتابه "هجرة اللبنانيين: 1850-2018 - مسارات عولمة مبكرة" الصادر في 559 صفحة، مطلع عام 2019 لدى "دار سائر المشرق" في بيروت. وهو كتب في مستهل توطئته الكتاب: "منذ طفولتي أنا محاط بمظاهر الهجرة من لبنان وإليه (...) وفي بلدتي بعبدات تحوط منزلي في الناحية القديمة من البلدة، منازل مسقوفة بالقرميد الأحمر، أصحابها الأصليون مغتربون في الولايات المتحدة وكولومبيا ومصر والبرازيل (...)  وكان أبي وأمي وجيراني وأقاربي وأصدقاؤنا يخبروني دائمًا عن أقاربنا وأقاربهم في بلاد الاغتراب (...) وابنتي البكر هاجرت لسنوات عشر إلى فرنسا وأميركا وسويسرا وعادت. وابنتي الثانية هاجرت إلى بريطانيا للدراسة والعمل".

وبعد مطالعات وجمع معلومات ودراسات ووثائق عن الهجرة وأنسبابها وتحولاتها واقتصادها، شرع بطرس لبكي في "البحث الجدي" عن الهجرة عام 1980، وكانت حصيلته هذا الكتاب.

(*) رواية بطرس لبكي، كتابة محمد أبي سمرا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها