الجمعة 2019/03/22

آخر تحديث: 12:40 (بيروت)

الفن في المحكمة العسكرية

الجمعة 2019/03/22
الفن في المحكمة العسكرية
في "عمارة يعقوبيان"، انتقد الأسواني نظام مبارك سياسياً، وكرّس الخطاب الطائفي والذكوري (غيتي)
increase حجم الخط decrease
منذ أن أعلن هيغل موت الفن، في محاضراته المعنونة "مدخل إلى علم الجمال"، خاض منظرو الفنون ومؤرخوها، في الغرب، طريقاً شاقاً لإعادة تعريف علاقة الفنون بالمجتمع. ففي نهاية القرن التاسع عشر، كانت الفنون قد أتمت مهمتها الإيديولوجية الأكبر والأفدح، بإضفاء بُعدٍ جمالي على مفهوم الدولة الأمة، وعلى الكثير من المذابح التي تأسست عليها. ظلت أنواع الأدب القومي والفولكلور والملحمة، تؤدي أدواراً جوهرية في تعريف مفاهيم الأصالة والمشترك والهوية، في مطلع القرن العشرين، لكن معضلة ولاءات الفنون حوّلت بوصلتها تدريجيا من الأمة إلى كيانات أضيق، كالطبقة والحزب. وهكذا أضحت العلاقة بين الفن والسياسة المباشرة، وتقاطعاتهما، هي الأسئلة التي هيمنت على مسألة الجميل. ووصل الأمر، في العشرينات والثلاثينات، أن أصبح الالتزام الحزبي الحديدي، أحد شروط الدخول لبعض الدوائر السوريالية الباريسية. وبعد الحرب الثانية، أضحت "الواقعية الاشتراكية"، بصيغتها الستالينية هي الأيديولوجيا الرسمية، في بلاد أوروبا الشرقية الشيوعية، وأيضاً في معظم دول الجنوب، مع انطلاق حركات التحرر. وفي مصر لم تكن الفنون وأدوارها بعيدة من هذا كله، فالستينات شهدت التجلي الأوضح لتأميمها، وأدلجة محتواها لخدمة مبادئ الاشتراكية والعروبة ومقاومة الاستعمار، ودُجّنت الدوائر الفنية والأدبية في صفوف بيروقراطية الدولة وتراتبيتها التكنوقراطية. 

لكن التداعي الأخلاقي للاتحاد السوفياتي، وفنونه وأيديولوجيته الجمالية، الذي بلغ درجاته الأدنى في الثمانينات، والتحولات الجوهرية التي أدخلها الرئيس أنور السادات على دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي في مصر، واستكملها حسني مبارك من بعده بمعدلات أسرع، خلقت شروخاً في بنية المؤسسة الفنية والأدبية. كان عقدا الثمانينات والتسعينات مخاضاً طويلاً، شهد مئات المبادرات الجماعية والتجارب الفنية الشخصية التي أخذت مسافة من الدولة، ووقفت على مسافات متباينة من علاقتها بالسياسة، ووجدت ملاذها في دور النشر والغاليريهات الصغيرة والمستقلة ووسائل الإعلام الخاصة والمؤسسات الداعمة غير الحكومية.

وفي مطلع الألفية، كانت رواية "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني، علامة فارقة على تحولات المؤسسات الفنية في مصر، وعلاقة المنتج الفني بالسياسي. فالرواج الاستثنائي لها ونجاحها التجاري، كان علامة على خروج الفنون والآداب المستقلة، من الدوائر النخبوية الضيقة إلى الاستهلاك الجماهيري، ونفى كل التنميطات الرائجة عن هامشية الثقافة. كان الأسواني نموذجاً مختلفاً، يشبه المؤسسة الفنية الصاعدة في وقته. كاتب غير متفرغ، ظل يمارس طب الأسنان في عيادته الخاصة لوقت طويل بعد نجاحه الأدبي، وكذا كان ناشره، أيضاً، دار خاصة كانت بسطة للجرائد قبل بضعة عقود.

ترجمت الرواية إلى عشرات اللغات، وتحولت إلى فيلم سينمائي مصري (2006)، وإلى مسلسل تلفزيوني أيضاً (2007)، وأضحت شخوصها وأحداثها تكثيفاً لما يمكن أن تعنيه "مصر" في عيون الكثيرين في الداخل والخارج. لكن، وباستثناء النقد اللاذع الذي تضمنته ضد نظام مبارك حينها، فإن "عمارة يعقوبيان" كانت زاخرة بالخطابات الرجعية. كانت الشخصيات القبطية في الرواية ممسوخة الجسد ومشوّهة الروح، مستعدة لفعل أي شيء لأجل المال. كان أقباط الأسواني المعادل الموضوعي لليهود الجشعين محنيي الظهور في مسرحيات العصر الفيكتوري. أما المقاطع الطويلة لوصف النهود والمؤخرات، فحصرت نساء الرواية في صنفين، الشابات المثيرات والمغويات، وكبيرات السن اليائسات من ضياع جمالهن وفقدانهن مبرر وجودهن. أما المثلية التي رُسمت كواحدة من أمراض المجتمع والتشوهات التي يخلفها الاعتداء الجنسي في الطفولة على الضحايا، فكانت نهايتها عادلة، بموت كل المتورطين في أفعالها المشينة.

إلا أن هذا كله، لا يقلل من شأن ما تعنيه "عمارة يعقوبيان". بل على العكس، يفصل بشكل أوضح وأدق، العلاقات المتعددة والمتراكبة للفن بالسياسة. فعلى المستوى المباشر، حملت الرواية نقداً لاذعاً للنظام. وعلى مستوى الخطاب والسياسات الدقيقة، كانت على العكس، ترسيخاً لبني الطائفية والذكورية ومعاداة المثلية. أما كاتبها نفسه، فإن انخراطه مع السياسي لم ينحصر في عمله الفني. فالأسواني، كان مواظباً على كتابة المقالات الصحافية في جريدة "العربي" المعارضة، وغيرها، وكان أحد مؤسسي حركة "كفاية" المعارضة في العام 2004، وأصدر قبل عام واحد من ثورة يناير، كتاباً سياسياً بعنوان سيء الحظ: "لماذا لا يثور المصريون؟". لم يكن الأسواني بالطبع، الروائي الوحيد أو الأول صاحب الصوت السياسي العالي، لكنه كان بلا شك أنجحهم جماهيرياً، وأشهرهم حينها.

وفي الثاني من آذار/مارس 2011، بعد شهرين من الثورة، كانت مواجهة تلفزيونية بين الأسواني والفريق أحمد شفيق، رئيس الوزراء حينها، هي القشة الأخيرة التي أسقطت حكومته، والتي أعلن المجلس العسكري إقالتها في اليوم التالي للقاء. وكانت تلك الواقعة التجسيد الأوضح للتداخل بين السياسي والفني، وللتأثير الذي يمكن للمشتغلين بالأدب أن يمارسوه في السياسة المباشرة. وكان ذلك تأثيراً لم يأخذه نظام مبارك على محمل الجد.

تأتي إحالة الأسواني إلى المحكمة العسكرية، قبل أيام، ومن قبله الحكم العسكري على الناشر خالد لطفي، مؤسس دار تنمية للنشر، في سياق سعي النظام الحاكم لمحاصرة تلك المساحة التي خلقتها المؤسسات المستقلة لإنتاج الثقافة لنفسها. تقف الفنون في المحكمة للقضاء على التقاطعات بينها وبين السياسي، وتجريم الأدوار التي يمكن أن ينخرط فيها منتجو الفنون والآداب مع مجتمعهم سياسياً، سواء بشكل مباشر أو ضمني. فالدروس التي تعلمها النظام من سابقه في هذ الشأن ليست بالهينة.   
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها