- الإنسان، الدين، التعليم، اللغة العربية والإنترنت، القراءات التراثية، الربيع العربي، والعلمانية؛ كانت هي المواضيع التي اشتغلت عليها في كتابك "لا إمام سوى العقل" والحقيقة أنها المواضيع نفسها تقريباً التي تطرحها الرواية، بشكل مباشر هل يمكن اعتبار "وحى" معالجة روائية –إن صح التعبير- لكتابك "لا إمام سوى العقل"؟ وأين تجد راحتك في تمرير هذه النوعية من الأفكار: في الرواية أم في الكتب السردية المباشرة؟
* هناك تقاطعٌ في الحقيقة بين اهتمامات بعض المواضيع في كتبي الفكرية، مثل "لا إمام سوى العقل" و"لنتعلّم كيف نتعلّم" الذي تلاه، وبعض اهتمامات رواياتي. لكن ثمّة فروقا جوهرية شاسعة:
تمرير الأفكار في المقالات عملٌ مباشر. والمقالات تتجه عموما للجميع. إنتاجها سريع غالبا، وقراءتها أيضا. وهي ضرورة يومية لنشر الأخبار والأفكار والمعارف المباشرة.
غير أن الرواية مشروع شاسع أصعب بكثير، لا يبحث عن تمرير أفكار في الجوهر. هدفه أن يَصنع في الأساس، بفضل قوة التخييل، واقعا جديدا، وأن يخلق لغة جديدة. وله التزامات جمالية وبنىً سرديّة خاصة.
صناعته أصعب بما لا حد له من السرد المباشر. لكن فضاء حريته، ومتعة وصعوبة صنعته أكثر بما لا حد له أيضا. وتمرير الأفكار فيه، إن ثمّة حاجة لتمرير، أكثر التواءً وإيحاءً وانسيابية.
بعد الانتهاء من كتابة بعض الروايات، أجد أحيانا مواضيع لمقالات تَستثمر بعض تجليات هذه الرواية أو تلك.
كمثلٍ على ذلك: أخذتْ كتابة رواية "تقرير الهدهد" مني عامين كاملين. بطلها أبو العلاء المعري (في مزيج حر يجمع بين سيرته الحقيقية والتخييلية) وهو يقوم برحلة زمكانية معاكسة لرحلة "رسالة الغفران" (من السماء إلى الأرض، لكتابة تقرير عن أوضاع عالمنا، بتكليفٍ من "الأعلى جدا").
تمّ خلال الرحلة، بين أهداف أخرى، برهنة أهم عطاءته الشعرية والفلسفية.
بعد كتابة الرواية، استثمرتُ منها بعض المقالات، منطلقا من فكرةٍ هنا، أو حدثٍ هناك. فعلتُ كذلك مع روايات أخرى لي.
لعل هذه العلاقة التحويلية تشبه قليلا فكرة مسرحَة الرواية (تحويلها إلى مسرحية)، أو صناعة فيلمٍ منها.
إذ يمكن أحيانا تفكيك بعض منعطفات وأحداث الرواية، واستثمار ما يمكن استخلاصه منها معرفيا، في مقالات مختلفة.
- يشكك بطل روايتك في الروايات التاريخية؛ يريد أن يسافر في الماضي ليرى بنفسه حتى يصدق. هذا مأزق حقيقي لمن يؤمن بالمعرفة العلمية، الرواية أيضا لم تقدم حلا لهذه المعضلة إلا أن كنت تعتبر أن النظر للمستقبل هو الحل كما فعل غسان بطل الرواية.
* هوَس غسّان برؤية الماضي، كما حدث فعلاً، ليس مأزقاً إلى هذا الحد، كونه حلمٌ يتم الاقتراب منه في الرواية علميّا حيناً، وبالتخييل العلمي حيناً آخر.
علمياً أولاً: عبر التوق للبحث عن الأضواء التي تعبر فضاء الكون حاملة صور الماضي.
فعندما تصلنا إلى الأرض صور من المريخ، هي في الحقيقة صورٌ للماضي الذي حدث هناك قبل حوالي 20 دقيقة (زمن عبور الضوء من المريخ عندما يكون في أقصى بُعده من الأرض).
وعندما تصل الأضواء من كوكب يبعد عن الأرض مليار سنة ضوئية، فهي صور من ماض حدث هناك، قبل مليار سنة، تحمله تلك الأضواء العجوز. ولعل ذلك الكوكب قد اندثر قبل وصول الأضواء إلى الأرض بدهر.
يحلم غسّان برؤية الماضي في تلك الأضواء تحديدا، وليس الغرق في الهلوسات الميتافيزيقية.
بالطبع، رؤية الماضي الذي حصل داخل أربعة جدران (في اجتماع السقيفة مثلاً) لا يمكن العثور عليه في الأضواء التائهة في فضاء الكون. هنا يبدأ التخييل العلمي الخالص.
هوس استشراف المستقبل هو الحلم المكمِّل لهوس رؤية الماضي. وإذا كان من الصعب جدا معرفة مستقبل العلم والبشرية بعد ٣ عقود من الآن فقط، فالتجوّل في العالم في العام 7777، كما حدث في "وحي"، كان تخييلاً علمياً خالصاً، لكنه تمّ في الرواية من وحي عقلية علمية، وانسجاماً مع اتجاهات العِلم الحالية وتصوّراته.
- لهذا تحديداً فإن غسان، الذي يؤمن بالعلم وبأنه لا حقيقة إلا ما يراه عبر ثقوب التليسكوب والميكروسكوب، ربما لا يتوافق معه مشاهد التحدث مع الحجارة في غلاباغوس!
* لغسّان، رغم عقليّته العلمية الخالصة، بعدٌ روحاني لا يمكن تناسيه فعلاً. لكن ميتافيزيقية روحانيته تخلو من الشطط الغيبي والتفكير السحري الديني. لعلها روحانية علميّة، إذا جاز القول.
استنطاقه للحجارة فلسفيٌّ خالص، بروح التخييل العلمي وليس بتحضير الأرواح والحوار مع العفاريت.
- من "دملان" وحتى "مايا" لماذا هناك دائما مدينة خيالية؟
* مدن الأحلام، المدن الطوباوية ومدن الخيال والفانتازيا، أشكالٌ متنوّعة احتاجها الإنسان عضويّاً، للهروب من بؤس وجفاف وديستوبيا حياته في مدن الواقع، منذ مدينة أفلاطون، ومدن ألف ليلة وليلة العديدة والمدن العجيبة التي عبرها السندباد البحري، و"يوتوبيا" توماس مور...
لعلها حاجته الميتافيزيقية نفسها لخلق "العالَم الآخر".
حاجةٌ إيجابية في رأيي (أو هروبية على الأقل) إذا ما انطلقنا من عبارة أوسكار ويلد: "التقدم ليس أكثر من تحقيق الطوباويات".
- الرحلات هي الحدث الوحيد تقريباً في الرواية، وهو حل ممتاز لرواية الأفكار تلك، لكن هل فكرت في استخدام رحلاتك في كتابة منفصلة، خصوصاً أن مجال أدب الرحلات أصبح شحيحاً هذه الأيام، أم انك تفضل التعامل معها روائياً كما في "وحي"؟
* كما لاحظتَ، لرواية الأفكار قيود سردية تكبِّل حركتها وتمنع انزياحات أحداثها أحياناً.
تمّ كسر ذلك في "وحي" بطرائق متنوعة: ثمّة أبٌ ذبح ابنه بالساطور الإبراهيمي بسبب حلم، لعب دوراً محورياً في الرواية.
وثمّة سرد لحيوات روائية مثيرة كهقاروف الذي تضاربت أحداث حياته في كل الاتجاهات المتعاكسة.
بالإضافة للسفر والرحلات التي تنقّلت بالسرد في عوالم متنوِّعة، تمكّنتْ ربما من مقاومة جاذبية "الثقب الأسود" الذي يُمثّله ثقل نقاش الأفكار في الرواية الفلسفية.
حتّى الآن، أفضِّل التعامل الروائي مع السفر والرحلات التي امتلأت حياتي بها، كما في "وحي"، أو في "حفيد سندباد".
السفر في "وحي" نحو سورينتو وجنوب إيطاليا، يقودنا إلى المناخات التي عاش فيها الفيلسوف نيتشه، وكتب بعض أهم أعماله.
والسفر فيها نحو أرخبيل الغلاباغوس يقودنا إلى سرد أول يوميات داروين فيها. حاكاها وعاش في مسرحها أيضاً بطلُ "وحي".
غير أن أهم سردي للسفر والرحلات كان في "حفيد سندباد"، روايتي التي سبقت "وحي".
بطل روايتي "حفيد سندباد"، نادر الغريب: مغربي، متعدد الأصول. يسافر من بلدٍ إلى بلد، يعيش وحيداً متنقلاً بين المقاهي والفنادق وقارعات الطرق. أسبوعان هنا، ثم أسبوعان في الطرف الآخر من الكرة الأرضية. يضع مجاناً بين الآن والآن برمجيات ترفيهية صغيرة على الإنترنت لتكون بمتناول الجميع، أو أخرى مهنية يبيعها لتسمح له بحياة بوهيمية حرة يطوف بها العالم، ترافقه حقيبة شخصية وكمبيوتر محمول فقط!
نصوص يومياته التي يعج بها كمبيوتره تؤثث معظم الرحلة الزمكانية للرواية في أحشاء هذا النصف قرن.
ولرواي "حفيد سندباد" أيضا حياة تتوزع بين الشرق والغرب، سياقها من نوع آخر مختلف كلية عن سياق رفيقه القديم نادر، لكنه يمثل الشاهد الثاني بامتياز على سيرورة هذا النصف قرن.
لعلّي سأكتفي حتّى الآن بالسرد الروائي للسفر على غرار "حفيد سندباد" و"وحي"، قبل التفكير في إعادة صياغته يوما ما في إطار أدب الرحلات.
- رغم كل تلك الرحلات التي قمت بها، ورغم استقرارك في باريس منذ زمن، إلا أن اليمن هي محور أعمالك كلها!
* اليمن حاضرة في أغلب أعمالي. والعلاقة بها صوفية، كما تبدو. ربما لأنها منجم لا ينضب للرواية، ومادة خام عذراء أجد فرصةً ثمينة لاستثمارها الريادي.
وربما لأن سردها أشبه بواجب مقدس: ألاحظ أن ثمة ذاكرة جماعية وأحداث تاريخية عبرَتْها، وأثّثتْ بيئتها، وحفرت أخاديد جروحها وحاضرها المؤلم، لم تُؤرشف أو تُؤرّخ أو تُستثمر أدبيا، وستموت من الذاكرة الجماعية الإنسانية إن لم أسردها.
وربما لعشقي الضاري لهذا البلد، شديد التنوع، التي تشكّلتْ فيه مداميك ثقافتي الأولى، ووفاءً له.
وربما لأن ارتباطي قويّ وعميق دوماً بِأهلها، وبكل مدنها وقراها، لاسيما عدَن الكوسموبوليتية التي ولدتُ فيها، وتفاعلتُ بحميمية وقوّة مع كل يومياتها على الدوام.
- أخيراً، لماذا فضّلتَ أن تظل "شهد" متوارية في الخلفية؟ ربما كان من الممكن منحها مساحة أكبر، خصوصاً أنها امتلكت كل الخيوط كما يظهر في النهاية.
* لعلها في تواريها في الخلفية، أكثر حضوراً. حضورها، في الحقيقة، إلهيٌّ في كل ثنايا الرواية. و"ظلِّها الملائكي" في الرواية تجلٍّ لحضورٍ طاغٍ لها في الأساس، لكن من طراز آخر.
احتاجت شهدُ عضوياً للعبة الاختفاء والوهم، كي تكشف جغرافية السراب في مفهوم الوحي، ولِيصطدم القارئ في النهاية وهو يكتشف أن شهد كانت مايسترو الأوبرا وفرقة العزف في الوقت نفسه. وما عداها سرابٌ خالص.
للسراب (ظمأنوت، في لغات اليمن والربع "الخالي" القديمة) هنا بُعدٌ جوهري ذي حضورٍ جاثم!
ألم يقل جورج جرداق في أغنية أم كلثوم: "هذه ليلتي": أغلقْ عينيك لتراني؟!
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها