الأربعاء 2019/02/06

آخر تحديث: 13:50 (بيروت)

كمال الحجيري.. شيء من الذاكرة الأليمة

الأربعاء 2019/02/06
كمال الحجيري.. شيء من الذاكرة الأليمة
كمال الحجيري 1986
increase حجم الخط decrease
إلى ذكرى كمال الحجيري وعمر الكردي 4 شباط 1986.

***
1-  كان الطلب عاجلاً وملحّاً، ضرورة الحضور الفوري، أترك كل مشاغلك في بعلبك وتوجه الآن إلى سعدنايل.

ما كنا نملك في ذلك الوقت غير أجهزة اللاسلكي، توكي ووكي، وسيلة وحيدة للاتصال عن بعد، وعبرها تصلنا البرقيات والتبليغات المشفّرة غالباً والمفتوحة الصريحة في حالات الضرورة القصوى والعاجلة.

- عساه خيراً؛ كنا نشعر بالتوتر والقلق حين تلقّي مثل هذه الدعوات السريعة المفاجئة لأنها تعني حدوث شيءٍ طارئ وقد يكون خطيراً، فالبلد في أقسى سنوات الحرب وفي أصعب مراحل التشتت والتشرذم والانقسامات، وفي كل لحظة قد تقع أحداث جديدة أو تطرأ تطورات خطيرة، ولم يكن مألوفاً ولا مناسباً سؤال عامل الإتصال عن مثل هذه الدعوات لما يسببه ذلك من إحراج للسائل والمسؤول، فهو غير مخوّل الإجابة حتى في الحالة إن كان يعرف المطلوب.


لم يكن اللقاء التعبوي مع الرفاق والأصحاب قد بدأ حين وقفت وبلهجة تنم عن الأسف والأسى معتذراً من الجميع: لن أكمل معكم هذا الإجتماع، رغم رغبتي القوية بذلك، إنما أُبلغت أن أرجع فوراً إلى المركز، فهناك طرأ أمر ما يوجب العودة الآن، وانسحبت.

أما الغداء الذي كان يحضّر لما بعد اللقاء التعبوي - التثقيفي، المكوّن من لحم الضأن المحمّر على الفحم مع البصل والبندورة المشويّين، وصحن التبولة مع قدح من الشراب البيتي الصنع مع الرفاق أبو عيسى جمال الدين وشقيقيه أبو أكرم وحسين والبقية الآخرين من الرفقة والأصدقاء الشباب؛ لا شك انه كان فرصة لا تفوّت مع مثل هؤلاء الرفاق والأصحاب، ولكن للضرورة والواجب أحكامهما، أودعناكم السلامة؛ وأدرت ظهري.

إنطلقتُ بأقصى سرعة في سيارة الفولفو النشيطة باتجاه رياق درزنون، لا يؤخّرني سوى وجود العدد الكبير من الحواجز والنقاط العسكرية الثابتة وغير الثابتة، المنتشرة على ذلك الطريق ويفوق عددها الثلاثين نقطة تفتيش، من الجمالية شمالي بعلبك حتى سعدنايل في أطراف شتورة. الطقس شبه الربيعي بشمسه الدافئة وهوائه المنعش وقلة السيارات العابرة كلها تغري بالقيادة المسرعة، كانت الطريق عبر زحلة لا تزال مقفلة، ولذلك كان الوصول إلى سعدنايل يقتضي التعريج على رياق وصولاً إلى طريق الشام من درزنون نحو شتورة.

حاولت أن أتفهم أسباب هذا الطلب المفاجئ وأن أستعرض الإحتمالات المختلفة فذهبت أفكاري في اتجاهات شتى ولم ينبهني من شرودي سوى قرقعة سلاح المجند السوري وصرخته: قف ... قف...، عند حاجز مفرق الدلهمية،... شو ما شايف قدامك؟ أعمى؟

صرصرت دواليب السيارة على حصى وحجارة الطريق المهلهلة وهي تتشبث بالأرض، فخرجت من ذهولي ومفاجأتي وأخرجت أوراقي وناولتها للعسكري: لا تؤاخذني لم أنتبه لمكان وقوفك يا رفيق!

بعصبية ظاهرة نظر في الأوراق مقلّباً بها، هز برأسه قبل أن يرفع عينيه عنها: تصريح المرور بإسمك؟ سأل، نعم، أجبت، مستعيداً شيئاً من المبادرة: أليست صورتي واضحة عليه؟!
روح... تاني مرة شوف قدامك، كنت رح قوّص عليك؛ شكراً وانطلقت بسرعة.

***


2 - كانت مجموعة المقاومة التي يقودها كمال الحجيري، ومن انضم إليها من مقاومي المناطق المحتلة في الجنوب، قد اجتازت كل الخطوط الأمامية العدوة، ومسرح تلك العملية هي تلال كفرشوبا وشبعا وصولاً إلى مواقع العدو عند مزارع شبعا، وهي منطقة في سفوح جبل الشيخ، ذات طبيعة شديدة الوعورة والقساوة ناهيك عن البرد القارس حتى في الأيام العادية.

انتشرت الأحاديث التي رواها السكان المحليون عن عنف المعركة التي جرت في تلك المنطقة واستمرت لعدة أيام وليالي في أوائل شباط، كما نقل رعاة المواشي وسكان المزارع القريبة حكايات مختلفة عن خسائر وقتلى وجرحى في صفوف الدوريات الإسرائيلية وفي صفوف المقاومين؛ كما نقلت نقاط المراقبة المتقدمة للمقاومين في وادي التيم والنبي صفا ولبايا ومشغرة مشاهداتها لحالة الإستنفار والإرباك التي أصابت جيش العدو حيث بقيت عمليات المطاردة والقصف المدفعي وتمشيط الوديان والتلال وتغطية المروحيات، والقنابل المضيئة ليلاً، لعدة أيام. كما بقي مصير عناصر المجموعة المقاومة مجهولاً لفترة غير قصيرة بانتظار عودة من نجا منهم، وحتى عناصر المجموعة الناجين لم يتيقنوا من مصير زملائهم أو بعضهم البعض لأن المجموعة قد تشتتت في كل اتجاه بعد اشتباكها مع دوريات العدو واشتداد  العواصف وحلول الظلام، واعتبر بعض عناصرها بحكم الموتى أو الأسرى أو الجرحى المفقودين، المجهولي المصير ومنهم قائد العملية كمال ومساعده عمر.

3- في سعدنايل كان كل شيء يوحي بحصول أمر جلل، الوجوه كالحة تعلوها ملامح الأسى، الوجوم والحزن ظاهران على الأحاديث والتصرفات، مما زاد من حالة التوتر التي تعتريني.
في مكتب المحافظة أُبلغت بأن جثامين شهداء معركة شبعا قد جرى سحبها وسلمت عبر الصليب الأحمر؛ ومن بينهم كمال الحجيري، وهذه بطاقته وأوراقه التي تركها قبل العملية، صورته عليها، أردف محدثي، متسائلاً أنت تعرفه طبعاً؟، شعرت بشيء من الضيق والغضب جراء الخبر المفجع  وذاك السؤال، نظرت مبتسماً بتعجب واستهجان دون جواب، فتلك البطاقة تحمل توقيعي وتارخها الشهر الأول من العام 86، لم يفاجئني خبر الاستشهاد كثيراً إذ كنا في أجواء توحي باستشهاد بعض عناصر المجموعة وقائدها كمال منذ أن فقدت آثارهم في العاصفة الثلجية، كما أن أهاليهم كانوا في أجواء الإختفاء تلك.
- بما أنك تعرف كمال جيّداً، قال محدثي، فقاطعته: هو ابن خالي محمد، أبو طلال حيدر شقيق أمي وهو منذ شهرين لم ينقطع عن زيارتي بين يوم وآخر.
- إذن توجه الآن إلى مركز الروضة، هناك وضعت توابيت جثث الشهداء، وعليك التعرف على جثة كمال قبل إبلاغك لأهله بالخبر ومن ثم تنظيم مراسم الجنازة والدفن ومباشرة نقلها إلى عرسال. وذلك ما حصل. وكتبت على غطاء الصندوق الخشبي اسم كمال الحجيري، أما الصندوق الثاني فكان به جثمان الشهيد من رياق: عمر الكردي.

***
4 - قبل قيامه بالعملية البطولية بمدة غير طويلة كنت على دراية بأن كمال ورفاقه يحضرون لعمل ما ضد الإحتلال الإسرائيلي، فقد ازداد تردده على منزلنا في أطراف شتورا بين حين وآخر، مما يؤكد بأنهم يقومون بتحضيرات يكتنفها الكتمان والغموض، ولم يكن من المناسب أن أسأله عن ذلك، كان كمال، بصوته الخفيض الممتزج ببحة خفيفة توحي بحزن وأسى عميقين، شديد الغموض لا يخوض في خصوصيات عمله لا تصريحاً ولا تلميحاً، يمضي معظم وقت زياراته وهو يلاعب أولادي الصغار.

كمال هو رابع أبناء محمد علي حيدر الحجيري السبعة إضافة إلى شقيقتين، ووالده هو كبير أبناء جدّي المغفور له علي حيدر الحجيري، من كبار وأبرع الفلاحين في عرسال، وهو أبرز عالم في أمور الدين والشريعة في البلدة، ومن حفظة القرآن غيباً عن ظهر قلب، من الفاتحة حتى آخر سورة البقرة، يكرّر قراءته كل يوم ويختمها بإهدائها لمن يشاء أو لمن يطلب، ويعلّم الأطفال القراءة والكتابة قبل وجود المدارس، ويحرّر عقود الزواج والطلاق ويشرع في المواريث، ويكتب الحجب والرقيات والتعاويذ وما أشبه ذلك من أمور الدين؛ وينظُم الشعر والعتابا والقرادي وأهازيج الزفة والأعراس والدبكة وما يشبه ذلك من أمور الدنيا؛ وهو من بين القلائل الذين عادوا أحياء من بقايا جيش السلطنة العثمانية في حرب الأناضول، لكنه عاد بدون مشطي قدميه.
ووالد كمال الراحل محمد علي حيدر هو من أوائل السياسيين البارزين في عرسال، فهو مؤسس ورئيس فرع الحزب التقدمي الإشتراكي في البلدة منذ تأسيسه من قبل الشهيد كمال جنبلاط، وقد اتخذ من منزله مقراً دائماً للحزب وكان مجلسه في كل ليلة يشبه منتدى دائم للحوار والنقاش في شتى المسائل السياسية والمحلية، ولا زالت شعارات وأعلام الحزب الإشتراكي تتصدر منزله حتى اليوم؛ وهو سمّى ولده كمال تيمناً بإسم كمال جنبلاط، كما سمّى إبنه الآخر دريد تيمناً بإسم نائب رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي المحامي دريد محمد ياغي، أطال الله بعمره.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها