الجمعة 2019/02/15

آخر تحديث: 12:26 (بيروت)

"بفضل الرب": بيدوفيليا الكنائس الفرنسية.. إلى السينما

الجمعة 2019/02/15
"بفضل الرب": بيدوفيليا الكنائس الفرنسية.. إلى السينما
ارتباط البرجوازية في ليون، بالكنيسة، قاد إلى صمت طويل، والخوف من القطيعة معها
increase حجم الخط decrease
"بفضل الرب"، كيف يمكن لهاتين الكلمتين الدارجتين أن تُحدثا كلّ هذا الصخب؟ كيف يمكن لعبارة الكاردينال فيليب بارباران، في قضية كاهنٍ متهمٍ بالاعتداء على أطفال في العام 2016 في فرنسا، بأن تتحوّل عنواناً لأبرز أفلام مهرجان برلين 2019 حتى اللحظة؟ في سياق بيان الكنيسة التي تنفض عنها التهمة، قال الكاردينال معلّقاً على تهمة البيدوفيليا "هل هذا مسموح به أم لا؟ منصوصٌ عليه قضائياً ربما، القانون سيقول كلمته. غالبية الأفعال بفضل الرب مسموح بها، والبعض منها لا". يومها استشاط المحيط غضباً، فقد اعتُبر تعبيره "بفضل الرب" اطمئناناً بأنّ هذا لم يحصل قط.

الأب بيرنار بريينات، من ليون الفرنسية، اعتدى جنسياً على 80 قاصراً بين العامين 1986 و1991، بينما حاولت الكنيسة التغطية عليه. هو يخضع اليوم لمحاكمة ستنتهي قريباً، بينما ستتم محاكمة الكاردينال بارباران وخمسة آخرين بتهمة التغطية على الاعتداءات في محاكمة سمّتها الصحف الفرنسية "محاكمة الصمت". المخرج الفرنسي فرانسوا أوزون، نقل هذه القصة إلى الشاشة الكبيرة. "بفضل الرب" اتهام سينمائي هادئ، مثير ولا يترك مجالاً لوجهتي نظر.

الكساندر (ميلفيل بوبود) بعد ثلاثين عاماً وأكثر، وبعد عقود من الألم النفسي، قرر الخروج عن صمته. هو الآن رب عائلة وموظف في بنك، لكنّه قبل كلّ شيء ضحية اعتداء جنسي من الأب بيرنار بريينات (بيرنار فيرلي) خلال رحلة كشفية. قرر إرسال رسالة إلى الكاردينال باربارين (فرانسوا مارثوريت) المسؤول عن أبرشية ليون. استهلّ رسالته مؤكّداً على تديّنه، هو الكاثوليكي الذي يعلّم أبناءه في مدرسة دينية حيث تعمل أيضاً زوجته مدرّسة. ثم بدأ بسرد قصّته عندما كان عضواً في الكشافة، وصولاً إلى اعتداء الأب بريينات عليه. الكاردينال بارباران عبّر عن تعاطفه معه، لكنّه كان واضحاً في نيته عدم اتخاذ أي إجراءٍ ضد بريينات الذي ما زال في مكتبه وما زال على تماسٍ مع أطفال. اعترف الأب بأفعاله، لكنّه لم يعتذر حتى، هو بنظر نفسه ضحية ولعه الجنسي بالأطفال. حينها قرر ألكسندر تقديم شكوى للشرطة وشرع في البحث عن ضحايا آخرين. لكثرتهم سيجدهم بسرعة، سيؤلفون جمعية وستبدأ التحقيقات ومعها المحاكمات. نشاهد مسار الشاب المتديّن العكسي، لفقدان الثقة بالكنيسة، من تصديقه مواقف الكاردينال العلنية المُدينة للاعتداءات وثقته في وقوف الكنيسة معه، إلى صدمة جمود الكنيسة، وصولاً إلى الانهيار التدريجي لقناعاته وإيمانه ثمّ بدء رحلة العقاب معه ومع رفاقه.


دخل أوزون سينما الأحداث الحقيقية هذه المرّة، من موضوع متفجر في فرنسا وفي ظلّ محاكمات لم تنتهِ بعد. اعتمد المخرج الفرنسي في البداية على جمعية la parole liberee (الكلام الحر) التي ساعدت الضحايا، هو تعرّف إليهم وأراد صنع فيلم وثائقي. فكرةٌ غيّرها المشاركون فانقلبت فيلماً درامياً. نفقد المخرج في بعض لحظات الفيلم، أوزون هنا بعيدٌ من أسلوبه الشخصي المميز. فكان فيلماً درامياً بارداً ودقيقاً يسعى إلى الواقعية، يثير الأسئلة والشكوك ويجعلنا نشاركه الإدانة. إنه أسلوب جديدٌ على أوزون، لكنّه أضمن من جهة، وأكثر تقييداً فنياً من جهة أخرى. أنجز أوزون قصته بزخم وببطء شديدين، هنا قضيّة يؤمن بصميمها، وقائع لا بدّ من التقيّد بها وحيوات عائلات وأعمال ضحايا يجب احترامهم.

"بفضل الرب" ليس فيلماً إحيائياً ضحلاً، وليس إدانة مبتذلة، إنّما دراسة دقيقة عن النفوس. الضحايا والمذنبون، أسرهم، ثمّ الهرم الكنسي. عرض أوزون خلال فيلمه وجهات نظر مختلفة، لكنّه لم يكن حيادياً أو موضوعياً، بل كان منحازا بكلّ وضوحٍ للضحايا. ليست معركة أووزون مع الأب المعتدي منفّذ العمل الشنيع فقط، الكنيسة الكاثوليكية تتحمل الكثير من المسؤولية، ما حججها؟ لا شيء على الإطلاق، بل هي مدانة في فيلمه، مثل الكاهن المعتدي. الإدانة الأكبر هي لهذا النظام الذي كتّف يديه، الذي تغاضى، غطّى، برّر، ثمّ غفر مثل هذه الجرائم التي تُرتكب منذ عقود.

مما لا شك فيه أنها قصة مدمرة، لكن أوزون أرادها شاملة. معظم الضحايا الآن لديهم أسرٌ ومهن، وينتمون غالباً إلى الطبقة الوسطى العليا على الأقل. الفيلم يؤشر حتماً إلى ارتباط مع الخلفيات الاجتماعية للضحايا. اوزون ركّز على المكانة الاجتماعية للضحايا، وأشار مراراً وتكراراً إلى ارتباط البرجوازية في ليون، بالكنيسة. وهذا يقود إلى اسباب الصمت الطويل، الى الخوف من القطيعة مع الكنيسة.

في معظم الأفلام التي تتحدث عن التحرش داخل الكنائس خطواتٌ مألوفة: الشكّ، التأكد، التمرد، السخط، توجيه التهم.. وما إلى ذلك خطوة تلو الأخرى. لكن في فيلم أوزون، كل هذا سبق الفيلم، نحن نبدأ من المشهد الأول: رسالة الكسندر للكاردينال، ثمّ في المشهد التالي تقترح الأبرشية اللقاء لحلّ القضية عبر الغفران. تمر هذه الدقائق الـ17 الأولى التي تعرض الصراع الرئيسي، لنبقى مع ساعتين يتكلّم فيها أوزون عن المسار البيروقراطي والإداري الطويل اللازم اتباعه لإدانة الكاهن، عن الضحايا بعد أعوامٍ طويلة، كيف تقدموا في العمر وكيف تعامل كلٌّ منهم مع الاعتداء من رفض بعضهم أي كلامٍ في الموضوع إلى النضال الحقوقي.

في السنوات الأخيرة راجت هذه القضية سينمائياً، أثمرت أفلاماً ممتازة مثل "سبوت لايت"، "شك"، "النادي" و"كالفاري". هذه الأفلام عملت على تفكيك وتحليل السلوك المثير للاشمئزاز لبعض رجال الكنيسة من زوايا مختلفة، لكن بقوة وثبات. وهذان العنصران نفتقرهما في "بفضلِ الرب". بطبيعة الحال سيكسب الفيلم تعاطفنا ثمّ سخطنا، لكنّ فيلم أوزون، لم يكن حاسماً، بل وكان مضعضعاً في بعض المواضع مفتقراً إلى التركيز: اكتشاف قصة كلّ ضحيّة خلال الإعتداء وبعده، حوّل الفيلم إلى تلبّكٍ فوضويٍ.

من التركيز على الكسندر، يجري الانتقال إلى ضحيّة أخرى ليصبح الكسندر ثانوياً، ثمّ ينتقل إلى الضحية الثالثة ليصبح الإثنان السابقان ثانويَين، وهكذا دواليك. والنتيجة، فقدان الاتصال مع الشخصيات. نحن نعجز عن بناء علاقة معها تتجاوز التعاطف، إذ علينا في كلّ نقلة أن نبدأ من جديد. هذه الوتيرة انطوت على بدايات جديدة وطاقة جديدة، لكن على حساب فقدان الشخصيات الأولى لبريقها مع انقضاء الوقت، بينما أردنا بقاء الجميع.

هنا استثمارٌ انسانيٌ كبيرٌ في الشخصيات، وفيلم لا تنتهي قصصه، لكنه بدا مملاً بعض الشيء. إنها ربما المَشاهد والسرد اللذ بدا أكاديمياً جداً وغير حسّي لمخرج يُعرف بأسلوبه الجدلي ومقارباته المختلفة. اختار أوزون أن يقدم قصة حساسة في الحاضر الفرنسي، فقدم فيلماً جيداً ومحترماً على حساب الإبداع.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها