إن السينما التي تتعرض لأحداث تاريخية، لا تقدم تمثيلا بصريًا لها، أو إعادة لقراءتها وفق اللحظة الراهنة، وإنما تعيد تمثيلها وفق احتمالات متعددة، وتعيد تصور العالم من دون حدوثها في خضمه؛ تفجر العالم وتعيد بناءه، وتعيد أيضًا، وفق اختلاف النوايا- نبيلة أو فاسدة- روايتها ضمن سردية جديدة تخدم تلك النوايا أو تدحض أخرى، وإلا تكون فارغة المعنى، إذ تصدت فقط لإعادة تمثيل الماضي حرفيًا، اعتمادًا على الوثائق المتفق على صحتها للتاريخ، والتي قد تكون هي الأخرى غير دقيقة أو كاذبة.
ففيلم "الناصر صلاح الدين"، مثلا، الذي أخرجه يوسف شاهين العام 1963، وكتب قصته يوسف السباعي ونجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي، لا يصلح كوثيقة تاريخية تدلل على ما جرى في عصر السلطان الأيوبي، وذلك لاحتوائه على كثير من الأحداث والشخصيات والمفاهيم التاريخية المختلقة، لكنه أيضًا بحسب تحليل محمد عفيفي لعناصر الفيلم، يمثل وثيقة تاريخية على الحقبة الناصرية، والصورة التي أراد بها النظام آنذاك توجيه أنظار الجماهير إلى قيم جديدة مثل القومية العربية، وما يمثله "ناصر" من قيمة معنوية أرادوا ترسيخها.
تقول سوزان سونتاغ، في مقال بعنوان "انحطاط السينما" (
نشر في "نيويورك تايمز" العام 1996، ونقله إلى العربية أحمد زغلول الشيطي في العدد الـ18 من مجلة "الفيلم" المصرية) إن "الشغف بالسينما أصبح ظاهرًا للمرة الأولى في الخمسينيات بفرنسا (...) و كانت الستينيات وأوائل السبعينيات عصر حُمى الذهاب إلى السينما"، وهو الأمر الذي لفت أنظار الأنظمة السياسية في العالم إلى قدرة الوسيط الفني الجديد على التأثير في الجماهير، (وربما قبل ذلك التاريخ حتى، حيث استعان هتلر بالمخرجة، ليني ريفنستال، التي صنعت له في العام 1935 فيلمًا بعنوان "انتصار الإرادة" للترويج للنازية). فنظام يوليو، الذي كان جمال عبد الناصر، وهو على رأسه، يكن ولعًا كبيرا بالسينما -حد أنه خصص في منزله (الذي تحول إلى متحف لاحقًا) قاعة للعرض السينمائي ليشاهد فيها الأفلام الأميركية التي يفضلها، بحسب محمد عفيفي، ويعرض كذلك الأفلام التي يقوم بتصويرها- استخدم السينما كثيرًا في الترويج لأفكاره، عبر أعمال متعددة أبرزها: رد قلبي، والأيدي الناعمة، والناصر صلاح الدين، وثلاثية إسماعيل يس في الجيش والطيران والأسطول وغيرها من الأفلام. إضافة إلى ما كانت تنتجه الدولة أسبوعيًا من وثائقيات تذاع في دور السينما قبيل عرض الأفلام الروائية، مثل "سباق مع الزمن" الذي رصد لتشييد السد العالي وتغيير مجرى النيل، بالإضافة إلى ما كتبه صلاح سالم، وزير الإرشاد القومي، ووجيه أباظة، عضو الضباط الأحرار، في مناسبات كثيرة عن السينما ودورها في "توعية الجماهير".
ولعل تلك القدرة التي تمتلكها السينما، في ظل عزوف الكثيرين، وبخاصة فئة الشباب، عن القراءة واستقاء التاريخ من مصادره الرئيسية، تمثل إرباكًا لدى بعض المؤرخين أو تخوف منطقية، تفسر رغبة الدكتور أيمن فؤاد، في التعامل مع الحقيقة التاريخية بشيء من التقديس، لكنها رغبة تمثل في الوقت نفسه تعدياً على الفن السينمائي، بمثل ما قد يراه رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وهو تعدٍّ من السينما على التاريخ. لكن هل يعني ذلك أن الدراما لا يجب أن تخضع للنقد التاريخي؟
للإجابة عن ذلك السؤال، ربما يجب أن نطرح سؤالًا آخر حول الدور الذي تلعبه الحقائق التاريخية في صناعة النص الدرامي المرصود. هل قدم كوينتن تارانتينو، مثلاً، فيلمه "Inglorious Bastards" الذي يتناول الحقبة النازية، كفيلم تاريخي؟ لم يفعل؛ وثمة مثال آخر من الدراما العربية سيبدو أكثر إيضاحا للمسألة، فسيرة شعبية مثل "علي الزيبق"، التي حولها يسري الجندي إلى مسلسل تلفزيوني من إخراج إبراهيم الشقنقيري، تقوم في الأساس على شخصيات ثبت وجودها التاريخي، فمقدمة الدرك "دليلة"، أو "دالة" المحتالة كما أسماها المسعودي في "مروج الذهب"، كانت موجودة في النصف الأخير من القرن الثالث الهجري، وكذلك علي الزيبق، الذي سجل ابن الأثير أنه كان موجودًا خلال فتنة الأمين والمأمون، وأنه تقلّد الشرطة في بغداد إبان العام 444 هجريًا. أما أحمد الدنف، أستاذ علي الزيبق بحسب السيرة الشعبية، فيذكر إبن إياس، أن السلطان الأشرف قايتباي قد أعدمه في مصر العام 891 بشقّه نصفين، فهل يمكن الحكم تاريخيًا على السيرة الشعبية والمسلسل التلفزيوني، اللذين جمعا ثلاثة شخصيات يفصل بين كل منهم على حدة مئات السنوات في عصر واحد، وإخضاعهما للتدقيق التاريخي؟ بالطبع لا، لأنهما لم يقدما نفسيهما كعمل تلعب فيه الحقيقة التاريخية نفسها دورًا دراميًا، لكنهما رغم ذلك، سيمثلان كل على حدة وثيقة تاريخية عن العصر الذي أنتجا فيه.
غير أن الأمر سيختلف كليًا، عند التصدي لتحليل عمل مثل المسلسل القصير "الجاسوس" الذي أنتجته "نتفلكس" مؤخرًا، عن حياة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، والذي يبرز التاريخ كأداة نقد رئيسة لدى الحكم على قيمته الفنية، لأن الوقائع التاريخية لعبت دورًا مهما للغاية في صناعة الدراما في المسلسل، الموجه بالمناسبة، والذي تتضرر دراميته كثيرًا ومعها قيمتها الفنية لوقوعه في أخطاء تاريخية ساذجة، لأنه يستمد قيمته الفنية في الأساس من التاريخ، وهكذا قدم نفسه إلى الجمهور.
يقول عماد أبو غازي، إنه لا يجب معاملة السينما كأنها كتاب للتاريخ، وأن الأفلام التاريخية، ليست التاريخ بحسب الوثائق، وإنما هي "التاريخ بحسب الخيال السينمائي"، الذي هو حق أصيل للمبدع، وهو الرأي الذي يمكن وفقه، استيعاب الدور الذي تلعبه السينما الروائية كوثيقة تاريخية تتجاوز التسجيل البصري للجغرافيا والطبيعة الإنسانية المتطورة، والذي يجب الدفاع عن حريته لكي تستمر السينما في تأدية دورها التأريخي، الذي يصفه المؤرخ الفرنسي مارك فيرو باعتباره "الوسيلة الأصدق من السينما التسجيلية في التأريخ". أما معضلة اعتماد البعض على الفيلم في تشكيل وعيهم التاريخي، في ظل ما قد يمارس علي من توجيه أو ما قد يعانيه من جهل أو فقر في الرؤى الفنية، فإن حلها –بحسب أبو غازي أيضًا- يكون عبر منظومة جديدة تطرح التاريخ بصيغ أخرى أكثر جذبًا، وليس بمحاكمة السينما تاريخيًا.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها