كوستوريتسا ليس مستتراً، يظهر أمام الكاميرا، متفاعلاً بصمت مع موخيكا، يحتسيان المتّة ويتبادلان النظرات والابتسامات. نبش أمير كوستوريتسا إرث "ببه"، تبدو علاقة المخرج بموضوع وثائقيّه وثيقة، بل إنّها تحولت إلى صداقة واضحة في اللحظات الممتعة في الفيلم.
إعجاب المخرج بشخص ضيفه فاضحٌ وسافرٌ، وهنا تكمن فرادة الوثائقي، المتفرج يستمتع بالإعجاب الهائل، ثمّ يصبح في وضعٍ مماثلٍ للمخرج الصربي، هو قريب جدا من المعبود دون أي "رتوش". إنه نوع الرجال الذي يهم كوستوريتسا يقول عنه "من خلال اسلوب حياته وشخصه، يعطي خوسيه موخيكا الأمل للوصول إلى المثالية، في المستقبل سوف يكون أكثر الهاما للناس من فيدل كاسترو"... يضيف "محبة الرئيس الأورغواي السابق للحياة والطبيعة هي في صميم أيديولوجيته، أعجبت به وبعمله، لكنني أتأسف لأنه لم يكن لدي رئيس مثله، قررت تصوير هذا الفيلم إحتفاءً بفضيلته وبإمكانية قيام مدينة فاضلة".
هدف عمل كوستوريتسا هو الاحتفال بالفضيلة، وهو ما نجح به بشكل كبير من خلال كلمات الرجل الخاصة بالإضافة إلى التصريحات التي أدلى بها أصدقاؤه والسياسيون في تاريخ مونتيفيديو. موخيكا رجل مرتبط لأقصى الحدود بأرضه وبجذوره، هو لا يزال يقود سيارة "البيتل" القديمة، رفض العيش في القصر الرئاسي خلال فترة توليه الحكم. تواضعٌ نصّبه كأول رجل سياسة من هذا النوع و"كأفقر رئيس في العالم" كما تقول الصحف العالمية. لا بل إنّ الرجل احتفظ لنفسه فقط بما يعادل 800 يورو من راتبه كرئيس وتبرع بالباقي لجمعيات خيرية، هذا خيار تمليه عليه قناعاته وحقيقة أن "العديد من مواطني الأوروغواي يعيشون بأقل من ذلك" على حدّ تعبيره.
هذا الوثائقي هو لقاء شخصين غير اعتياديين، هما من ذوي القيمة الاستثنائية في السياسة والفن والثقافة. كوستوريتسا من جهة أخرى هو من أهم المخرجين الأوروبيين والعالميين وحائز سعفة كانّ الذهبية مرتين، أفلامه الروائية والوثائقية تعد ارثاً ثقافياً بالإضافة إلى كونه موسيقياً.
هنا في بعض الأحيان يبدو فيلم كوستوريتسا كمشروع هواية سريع الخطي. على سبيل المثال نسمع في بعض الأحيان موخيكا يتكلم الإسبانية وفي نفس الوقت نسمع المترجم المستتر يتكلم الإنكليزية ثمّ كوستوريتسا ينصت إلى الترجمة من خلال سماعات الأذن، هذه في الأساس قضايا تقنية تحل بسهولة وهذا يؤكد الإنطباع بأن موزانة الفيلم لم تكن كبيرة. ولكن هل أثّر هذا على الفيلم؟ كلا، كان واضحا جدا ان موخيكا حمل الفيلم على عاتقه، سيطر عليه بروعة ونقل عظمة شخصيته بشكل رائع بتواضع وعناد.
إن أردنا التحدّث عن المشاكل، تطرأ مشكلة وحيدة. نحن نريد أن نعرف المزيد والمزيد، كيف تمكن الببه من التوفيق الصعب بين ماضيه كمقاتل والآن كرجل مؤسسات ودولة؟ كيف تسير الأمور حاليا في أميركا اللاتينية بعد موت فيدل كاسترو؟ خلال أزمة مادورو في فنزويلا والعواصف التي تضرب اليسار حتى اليوم في تلك الأرجاء.
"بعد عقوبة الإعدام، الوحدة هي اصعب العقبات"، هكذا يقول موخيكا في حديثه عن أيام المعتقل. هناك أيضاً تحبب إلى الطبيعة، إلى الفئران، تعايش معها ومع مواعيد زياراتها، "كانت تأتي عند الواحدة ليلا لالتقاط فتات الخبز". من الجدية والحساسية في هذه القضايا ننتقل بخفة عفوية إلى الحب والزواج وكيفية الحفاظ عليه، تطرأ زوجته لوسيا توبولانسكي على البال، هي التي تشغل الآن منصب نائب رئيس جمهورية الأوروغواي، لنصل إلى أجمل اللحظات الحميمية في الوثائقي. يبدو راضياً رغم كلّ ما مرّ عليه باستثناء عدم إنجاب الأطفال. يسرد الرجلان معاً أحاديثاً عميقة، عن معنى الحياة من وجهات نظر مختلفة، لينتقلا إلى الموسيقى والغجر عن الكوميديا في فيلم "قطة بيضاء، قطة سوداء" لكوستوريتسا، عن موسيقى التانغو التي طغت على لحظات الفيلم والتي يحبها الرئيس بينما المخرج الموسيقي أيضاً ضليعٌ بها، فكان الكلام عنها راقٍ. نأتي إلى ألبوم صور، صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود مشاهد من فيلم "حالة حصار" (1972) لكوستا غافراس عن الانقلاب العسكري في الأوروغواي.
كل هذا وأكثر قدمه كوستوريتسا. يعترف الرئيس السابق بابتزاز كوستوريتسا له عندما ذهب إلى مهرجان البندقية الأخير ليشهد العرض الأول، يقول ممازحاً الصحافيين في المهرجان "ابتزني كوستوريتسا، قال لي إن لم تذهب، أنا لن اذهب". بتواضعه المعهود وتحببه المألوف والعفوي وبانبهار كوستوريتسا الفاضح لم نزدد إلّا إعجاباً بماضي خوسيه وحاضره، هو كان وسيبقى رجلاً نادراً في الوسط السياسي، هو من دخل المجال الأقذر محافظاً على النقاء فبقي رئيس الجمهورية الأفقر..
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها