السبت 2018/09/29

آخر تحديث: 12:41 (بيروت)

بكين وأفارقتها المجهولون

السبت 2018/09/29
increase حجم الخط decrease
استقبلتنا المدينة بغمامة رمادية، حجبت عنا قسوة شمس أغسطس بلطف، وخففت حرارة الجو. لكن غبطتنا لم تستمر طويلاً، فبعد ساعات قليلة من وصولنا، أضحى الهواء مكتوماً وازداد ثقلا، وبدت السماء الموصدة فوق رؤوسنا، وكأنها تهبط رويداً رويداً لتجثم بثقلها على صدورنا. كنتُ قد بدأت نوبات قصيرة وحادة من السعال، تركت مذاقاً حارقاً على طرف لساني، وعرفت بعد هذا، أنه طعم غبار الفحم الذي تنفثه مداخن المصانع ومحطات الكهرباء على سكان المدينة كل صباح. 

سخر صديقي القاهري المقيم في بكين منذ عامين، حين أخبرته بأنني أشعر بالغثيان، بفعل التلوث: "أنت شوفت حاجة!"، مضيفاً أني محظوظ، فنسب التلوث قد تصل إلى 15 ضعفاً مما شهدته، وفي الأيام القليلة السابقة، هبطت نسبه بشكل مفاجئ، وهو لم ير أياماً أكثر صحواً من هذه الأيام. نصحني ميشيل بمتابعة مقياس التلوث في موقع السفارة الأميركية ببكين، وهذا ما فعلته يوماً بيوم. وكان صديقي محقاً بالفعل. ففي اليوم التالي، انقشعت الغمامة تماماً، وظهرت السماء فوقنا ناصعة وفاقعة الزرقة. وفي الصباح الباكر، كان يمكننا تنسم هواء منعش ونقيّ، وبلسعة من خفيفة من رطوبة الصيف، وكانت الأرقام على مقياس التلوث الأميركي للمدينة أقل من معظم العواصم الأوروبية، ولمدة عشرة أيام كاملة. كان الأمر أقرب إلى معجزة صغيرة.



في يومنا الثالث في بكين، وفي طريقنا إلى الجبال لزيارة "السور العظيم"، كان لسر المعجزة أن ينكشف. فالمرشد السياحي الذي اصطحبنا إلى هناك، أغبطنا على حسن طالعنا، مضيفاً أن زيارتنا توافقت مع القمة الصينية-الأفريقية، وكان هذا هو سر الهواء النقي. فالحكومة كعادتها في المناسبات الدولية الكبرى، تغلق المصانع المحيطة بالمدينة، وقسماً من محطات الكهرباء، من أجل ضيوفها الرسميين. وجد المرشد اندهاشنا مما قاله، فرصة لانتقاد الحكومة والحزب الشيوعي، وشعرنا بقليل من عدم الارتياح. لكن ما طمأننا هو رد فعل مندوبة المؤسسة الحكومية التي رتبت لنا الرحلة، وكانت برفقتنا في مقعد السيارة الخلفي. فهي إما تبتسم، أو تهز رأسها موافقة على ما يقول. إذ يبدو أن انتقاد الحكومة مسموح به، طالما أنه لا يتعدى الكلام، ولا يخرج إلى الميادين.

في اليوم التالي، وقفت في طابور طويل للوصول إلى ميدان السلام السماوي، وكان الميدان نفسه مغلقا، وممنوعاً على الجمهور. فمنذ مذبحته الشهيرة في 1989، توالت محاولات التظاهر هناك، ونجح بعض المحتجين في الدخول إليه. وفي العام 2007، مثلاً، أشعل مواطن النار في أيقونة "ماو" الضخمة المعلقة هناك. على مشارف الميدان، كان بضعة آلاف يتحركون ببطء عبر ماكينات كشف المعادن، فيما يتأكد رجال الشرطة من هوياتهم. وكان الأمر مثيراً للضحك والأسى في الوقت نفسه. فمعظم المنتظرين يتجهون إلى "المدينة المحرمة"، فكيف ذلك؟ ... لقد أصبحت مدينة الأباطرة مباحة أمام الجميع، فيما ميدان الثورة محرَّم على الشعب! 


"الأيام الصين المزهرة ولّت بلا رجعة"، تخبرني صديقتي "لا-لي"، وتقول أن الأميركيين عازمون على تصعيد الصراع مع بلادها، فالأمر لن يتوقف عند الحرب التجارية التي بدأها ترامب. وراحت تسرد لي مخاوفها في خلال مرورنا بحرس الشرف، وهم بزيهم العسكري وعتادهم الكامل، ناصية بعد أخرى، وفي مطالع الجسور ومنازلها، وأمام محطات المترو. ويتخلل هذا كله، مشهد مجموعات من المواطنين المسنين من حاملي شارات الأمن التطوعي، جالسين عند مفترقات الطرق وفي ظل المباني الحكومية. قالت لي رفيقتي بأن المدينة لا تبدو هكذا في الأيام العادية، فكل هذه التجهيزات الأمنية الاستثنائية، مخصصة لإبهار الضيوف المشاركين في القمة الأفريقية. فلا طريقة للتعامل مع الحرب التجارية الأميركية، سوى بالتوسع في أفريقيا. لكن احتفاء الصين - الشريك التجاري الأول للقارة السمراء - بزوارها الأفارقة، لم يصب في صالحنا دائماً. فمحاولاتنا المتكررة لزيارة ضريح "ماو"، باءت بالفشل، ذلك أن المزار كان مغلقاً أمام الجمهور أثناء القمة الإفريقية، وبعض أجنحة المتاحف كان مغلقاً للسب نفسه.

لكن، لحسن الحظ أو ربما قبحه، كانت قاعة المقتنيات الأفريقية في المتحف الوطني ببكين، مفتوحة للجمهور. وباستثناء معرض لبعض الأعمال التشكيلية لفنانين من السكان الأصليين لأستراليا، كانت المقتنيات الأفريقية هي المعروض الأجنبي الوحيد في المتحف الذي يضم أكثر من مليون قطعة. كانت القاعة مملوءة تماماً بالتماثيل الخشبية والمعدنية، والتي بدت وكأنها قد جمعت من محلات التحف السياحية الرخيصة. ولم تحمل اللوحات التعريفية، أي معلومات عن الأعمال، أو أصحابها، سوى أنها تنتمي للفنون التقليدية لقبلية كذا أو كذا. وتبيّن أن معظم الأعمال المكدسة حديث جداً، وتبنى صنّاعه أنساقاً فنية غربية وتجارية رائجة. كان الأمر صادماً ومخجلاً!

وفي طريق خروجنا من القاعة، كانت اللوحة التعريفية الرئيسية، والتي لم نلاحظها عند دخولنا، تشي بالكثير مما تظنه إدارة المتحف بالقارة السمراء. فالهدف من المعرض، ومجموعته "الأنثروبولوجية" لفنون مناطق النفوذ الصينية الجديدة، هو تعميق الصداقة بين الشعوب الأفريقية والصين. ولذا يدعو نص اللوحة الجمهور إلى الاحتفاء بالفنون الأفريقية "القبلية" وفنانيها "المجهولين".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها