الخميس 2018/08/16

آخر تحديث: 12:14 (بيروت)

نيبول: أبناء الإمبراطورية في منافيها

الخميس 2018/08/16
نيبول: أبناء الإمبراطورية في منافيها
رسم صورة قاتمة لمجتمعات أفريقيا وآسيا والأميركيتين، متبرّئاً من أي انتماء لعالَم المستعمَرات حيث "تختلط البربرية بالدم"
increase حجم الخط decrease
مثل بطل روايته الأشهر "في منحنى النهر"، سليم، التاجر من أصول هندية الذي يهجر سواحل أفريقيا إلى قلبها، فإن نيبول الذي رحل عن عالمنا قبل أيام، هو أيضاً مثال لأبناء الإمبراطورية الذين تركوا بلا أرض أو جذور. لا يعطي الروائي الحاصل على نوبل، اسماً للبلد الذي يفقد فيها البطل تجارته، ولا للرجل الكبير، الديكتاتور، ولا للنهر الذي ينتقل إلى جانبه، فالقصة مكررة في كل مكان. إذ كان يرى عالم ما بعد الاستعمار، عالقاً في وسط الطريق، بين أنصاف الثورات، والهبات غير المكتملة للشعوب المستعمَرة، وحالة من الفوضى والعنف تسود مجتمعاتها.

في العام 1950، وصل نيبول ابن 18 عاماً إلى الشواطئ البريطانية، من مسقط رأسه ترينداد، في منحة لدراسة اللغة الإنكليزية في جامعة أوكسفورد، مستكملاً رحلة كان قد بدأها جدّه قبل عقود سبعة، حين انتقل من الهند للعمل في مزارع القصب في الجزيرة الكاريبية الصغيرة التي ينتمي معظم سكانها إلى عبيد الإمبراطورية الذين أُسروا في غرب أفريقيا. كان نيبول غريباً في أوكسفورد، فالجميع نظر إليه بوصفه كاريبياً. كما كان غريباً في مسقط رأسه ترينداد، أيضاً، بسبب أصوله الهندية. في إنكلترا كانت بشرته داكنة أكثر من اللازم، وفي ترينداد كان فاتحاً اللون أكثر مما ينبغي. في لندن، وفي غرفة انتظار الصحافيين في إذاعة "بي بي سي" حيث عمل بها بعد تخرجه مباشرة، وجد نيبول نفسه واحداً من أولئك المهاجرين واللاجئين القادمين من الهند الغربية، والمهمشين في عاصمة المتروبول. وفي مسقط رأسه، كما في المستعمرات السابقة في إفريقيا وآسيا، أضحت الجالية الهندية منبوذة ومطارَدة.

ورث نيبول لعنة التشرد أينما حل، بلا جذور، أو انتماء يمكنه التمسك به. ابن منسيّ للإمبراطورية التي انهارت، وتركت ملايين الهائمين في خرائبها. في العام 1962، وطأ نيبول للمرة الأولى، أرض أجداده، الهند، ليصاب بالفزع. فللمرة الأولى في حياته، أصبح بلا وجه يستدعي الانتباه، فهو يشبه كل من حوله، وهم يشبهونه. لكن هذا لم يشعره بالألفة، فالصحافي والروائي اللندني، خريج أوكسفورد، لم يكن لديه ما يربطه في الحقيقة بهذا المكان الذي لا يشبهه، سوى في الظاهر فقط. بعد عامين، أصدر الكتاب الأول من ثلاثيته عن الهند، بعنوان: "مساحة من الظلام". استكمل نيبول في كتابه هذا، ما بدأه في "الممر الأوسط" (1962) عن دول الكاريبي المستقلة حديثاً. ففي كل مكان، في العالم الثالث، كان يرى الشيء نفسه: "البطالة، والقبح، والانفجار السكاني".

عبر 29 كتاباً، نصفها تقريباً غير أدبي، رسم نيبول صورة قاتمة لمجتمعات أفريقيا وآسيا والأميركيتين، متبرّئاً من أي انتماء لعالم المستعمرات الذي تختلط فيه البربرية بالدم، والديكتاتورية بالتخلف، كما صوّره. صبّ الكاتب، الذي منعت كتبه الأولى في الهند، الكثير من الغضب والاحتقار على الأفارقة والمسلمين، أكثر من غيرهم. ففي كتابيه "بين المؤمنين: رحلة إسلامية" (1980)، و"ما لا يمكن تصديقه" (1998)، يسجل رحلتين له في بلاد "المتحولين". فبالنسبة إلى نيبول، الإسلام دين عربي، وكل المسلمين الذين لم يتبنوا اللغة العربية، هم متحولون، ومنتزَعون من أصولهم، ومغتربون عن ثقافتهم الأصلية، مهما مرت القرون. هكذا، فكما حوّل نبيول غضبه من الاستعمار وأسقطه على المستعمَرين، فإنه حمل مأساة الاغتراب على الإسلام، بدلاً من الإمبراطورية.

لم يعبأ نيبول كثيراً بالنقد الذي وُجّه له، ولا باتهامه بالعنصرية واحتقار الذات، بل على العكس لطالما صرّح بأنه يستمتع به. وكان إدوارد سعيد واحداً من أشرس منتقديه، ولطالما استخدم نصوصه ليضرب نموذجاً لأحطّ صور التشويه التي تتركه الإمبراطورية في نفوس المستعمَرين. وصفه سعيد مرة بأنه "كارثة فكرية"، وفي مرات أخرى بالجهل والتسطيح والكراهية التي يرى بها العالم من خلال "نظرات من العصر الفيكتوري". لكن، ورغم العداوة المعلَنة بين الرجلَين، فإن ما يربط بينهم أعمق مما يبدو. فكلاهما كان من أبناء الإمبراطورية نفسها، ومن ورثة تشردها ومنافيها، وكلاهما صنع مجده في مراكز الميتروبول. لكن، وفيما اختار سعيد أن يغضب لشعبه المشرد ويُشعر جمهوره الغربي بالذنب، اختار نيبول أن يغضب من شعوبه المشردة وأن يُشعر جمهوره الأبيض بالرضا عن النفس. وبين الإثنين، تنحصر الخيارات أمام أبناء الإمبراطورية التائهين، فإما التماهي الكامل، أو الصراخ من الداخل، بلغة الامبراطورية ومفرداتها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها