الإثنين 2018/07/16

آخر تحديث: 11:54 (بيروت)

ختام مونديال 2018: الحداثة بتنوّع بديل.. وتفكك حلف الأطلسي

الإثنين 2018/07/16
ختام مونديال 2018: الحداثة بتنوّع بديل.. وتفكك حلف الأطلسي
ماكرون يهنئ اللاعب الفرنسي من أصول إفريقية كيليان امبابي (غيتي)
increase حجم الخط decrease
في ختامه، كثّف مونديال 2018 سمات في اللحظة العالمية حاضراً: خصوصاً تكريس التنوّع بديلاً (واستمراراً) لمشروع الحداثة الغربي، وإشهار بداية نظام عالمي متمازج ومضطرب أيضاً!  

مَن يكره مزج السياسة بكرة القدم، عليه أن يهجر تلك الأكذوبة. لم يتفرد "مونديال روسيا" بشيء أشد من حضور السياسة فيه، بل ذكّر بأنها كانت حاضرة دوماً في كرة القدم المعاصرة، أقلّه في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

الأرجح أن مونديال 2018 سجّل فرادة في الكثافة السياسية، بل تبدو مشهديات ختامه تعبيراً مكثفاً عنها حاضراً، خصوصاً تفكك حلف الأطلسي، وبداية تكرس نظام عالمي متنوّع في السياسة والاستراتيجيا، يكون موازياً لبداية انتقال مضطرب يكرس ما بعد الحداثة في قلب السياسة والاجتماع والثقافة وغيرها.

فاز بالكأس الذهبية، الفريق الفرنسي المكوّن من لاعبين تتحدر كثرتهم من عائلات مهاجرين جاءوا إلى فرنسا من بلاد افريقية وعربية. واستطاع أصحاب الملامح المختلفة أن يحرزوا كأساً استعصت على فريق كرواتيا الذي افتقد إلى ذلك التنوّع. وذكّر حضور الرئيس إيمانويل ماكرون، بأن جزءاً من الثقافة التي حملته إلى سدة الرئاسة كانت تلك الميالة إلى التنوّع على حساب الأحادية (= "الوطنية" الصافية المشربة بالتعصب) التي مثلتها منافسته مارين لوبين، قائدة اليمين الشعبوي المحتفظ بتصلبه الديني والعِرقي. إذ شدّد ماكرون مراراً على أن فرنسا تغيرت، وأن المسلمين والمهاجرين صاروا جزءاً منها. وسخر من تمسك الرئيس السابق ساركوزي بمفهوم "الفرنسي مَن له أجداد في بلاد الغال"، بالقول بضرورة الاعتراف بأن شطراً من الشعب الفرنسي ليس له أولئك الأجداد! ألا يبدو انتصاراً في الكُرة (بَعد السياسة) حضور ماكرون المباراة الختامية وتهنئته تحت الأمطار، فريقه المتنوّع في الأجسام والموحّد تحت علم فرنسا؟

يعني ذلك أيضاً أن مفهوم الانتماء القومي- الوطني لم يعد كما صاغته الحداثة منذ القرن التاسع عشر، بل صار قابلاً لتنوّع واسع، ربما هو أقرب الى الاختيار الفردي أيضاً. وصحيح أيضاً أن رمز الوطنية (العَلَم) كان طاغي الحضور في المونديال، بل استولى على وجوه الأفراد (بالألوان والأوشام والملابس)، لكنه لم يعد شديد التنميط، ربما أحياناً إلى حد ظهور خيارات الفرد فيه. لعل ذلك ما عبّر عنه لاعب بلجيكا (الحصان الأسود بامتياز للمونديال) روميلو لوكاكو، بإشارته إلى أن الإعلام البلجيكي يعتبره كونغولياً عندما يسيء اللعب، ويرسمه بلجيكياً عندما يتألق! إنها مشهدية الاختيار الفردي، لكن من الوجهة الأخرى (= المجتمع).

"عصر الأنوار": تحت المطر!
إذاً، الأرجح أن مباراة الختام بدت لحظة مكثفة للتنوّع في الهوية الوطنية/القومية الواحدة، كأنها انتصار التنوّع وسقوط السرديات الأحادية الكبرى (وفق تعبير صار شائعاً منذ سبعينات القرن العشرين، وخصوصاً بعد "مانفيستو ما بعد الحداثة" للمفكر الفرنسي فرانسوا ليوتار). وهي أقرب إلى تكريسه في قلب العيش المعاصر، خصوصاً مع صعود الرياضة في الثقافة بمعناها الواسع.

كذلك يحمل الأمر شيئاً يتراوح بين التمازج والاضطراب.
إذ يدأب ماكرون على التذكير بالتمسك بقيم "عصر الأنوار" في القرن التاسع عشر، ويندرج ذلك ضمن أشياء عديدة تشير إلى أن ما بعد الحداثة ليست نسفاً لها، بل إن نقضها للحداثة فيه استمرار لكثير من قيمها. في ذلك التمازج المضطرب والملتبس، يمكن فهم أن تظهر القومية/ الوطنية الفرنسية في الملاعب المونديالية، باعتبارها الوحدة والتنوّع سوية، وهو وصف ينطبق على منتخبات باتت "ملونة"، كمنتخبات انكلترا وبلجيكا والدنمارك والسويد. لعلها مفارقة أن منتخبات أميركا اللاتينية أقل تنوّعاً من الأوروبية، رغم أن تنوّع الأخيرة يأتي بعضه من أميركا اللاتينية نفسها! ما علاقة ذلك أيضاً مع انتقال مركز الثقل في كرة القدم من أميركا اللاتينية إلى أوروبا؟ بديهي القول أن للأموال حصتها، وكذلك الحال بالنسبة لتقدم الدول الأوروبية الحديثة. المفارقة أن جزءاً من ذلك التقدم جرى عبر استعمار قاسٍ ونهّاب لأميركا اللاتينية، بل قارات العالم بأسره!

من يريد أن يلتقط رائحة الثقافة المعاصرة ويتذوق نكهاتها الفعلية، ليس عليه سوى التأمل ملياً في تلك الخاتمة الموسيقية المبهجة التي كثفت ثقافة الشباب، بل الثقافة العميقة لعالم اليوم. والأرجح أنها تضاف إلى ما صار مألوفاً أن تقدمه كرة القدم كتعبيرات عن الثقافة، أي عبر ما يظهر على الأجساد الحاضرة في المدرجات من ملابس وأوشام وألوان وأعلام وغيرها. وضمن مساحات مماثلة، رسمت روسيا انفتاحها على ثقافة التعدد والتنوّع، في ربع ساعة شبابي، ظهر فيه اللاعب البرازيلي الأسطوري رونالدينو قارعاً على طبل قبائلي إفريقي/لاتيني. وأدى شباب روس، في ملابس تضج بالجرأة والتحدي والعولمة (كاستلهام بذلات رواد الفضاء، وملابس نجمات مثل أديل وتايلور سويفت ومايلي سايرس)، رقصات مزجت البريك دانس بالستريت دانس، على وقع موسيقى كاريبية ممزوجة بايقاعات التكنو والبوب والميتال وغيرها.

فرادة في لقطتين.. إحداهما قطَر
بالعودة إلى كثافة السياسة في المونديال، تكفي الإشارة إلى لقطتين فائقتي الفرادة. للمرة الأولى، تنتقل كرة المونديال (وهي فعل رمزي يشبه انتقال شعلة الألعاب الأولمبية) من بلد إلى آخر، عبر رؤسائها السياسيين مباشرة. انتقلت قيادة المونديال من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، فسجلت لحظة أولى في انتقال الرياضة عبر أيدي رأسَي الهرم السياسي. لا يتسع المجال لسرد تداخلات السياسة والمونديال، فذلك أمر يحتاج كتباً لتتحدث عن أشياء ليس أولها ما بات معروفاً عن سقوط منتخب المجر الذهبي في مونديال 1958 كجزء من الحرب الباردة وضرب النموذج الاشتراكي، وليس آخرها الظهور الأسطوري للبرازيل (والنجم الشاب آنذاك بيليه) كنموذج لنجاح النموذج الرأسمالي في العالم الثالث. وفي تماهيات السياسة مع الكرة، يبرز الهدف الذي أحرزه اللاعب دييغو مارادونا في شباك المنتخب الإنكليزي بيده، فوُصف ذلك بأنه "يد إلهية" ورُبط بالحرب بين الأرجنتين وانكلترا على جزر الفوكلاند. في تماهيات السياسة، بات مألوفاً النظر إلى مباريات المنتخبات كأنها تضع الوطن/ الأمة في ميزان القوى، فيشبه ذلك طريقة النظر إلى الحروب وانتصاراتها وهزائمها.

ولعل اللقطة الفريدة الثانية هذا العام، هي حضور الرئيس الفرنسي إلى جانب بوتين، في مباراة الختام، إضافة إلى رئيسة كرواتيا وأمير قطر. بل إن ماكرون "اغتنم" فرصة المباراة لإجراء مباحثات سياسية مع بوتين. ألم يأت ماكرون بعد اجتماع للأطلسي تميز بتفجر الخلافات بين الرئيس الشعبوي دونالد ترامب، والأعضاء الأوروربيين في الحلف؟ بل تباهى الرئيس الأميركي بأنه فرض على الأوروبيين رأيه في تمويل الحلف، قوبِل برفض ونفي أوروبي ملفت؟ ألم تصف سلطات اوروبية كثيرة، خصوصاً وزير خارجية فرنسا، الاجتماع، بأنه تفكيك لوحدة حلف الأطلسي؟ ثمة من يرى أن الأفق صار مفتوحاً أمام حل العقوبات التي باعدت بين روسيا والاتحاد الأوروبي بعد حرب أوكرانيا، بل ربما سرّع ترامب في ذلك الحل بلقائه بوتين، بعد ختام المونديال بيوم! هل تتجه أوروبا إلى بناء قوة عسكرية مستقلة، بل ربما دعمتها بالاتجاه ايجابياً صوب الشرق، صوب أوراسيا، بل تحديداً صوب روسيا الصاعدة قطباً وازناً في النظام العالمي؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها