الجمعة 2018/06/01

آخر تحديث: 13:29 (بيروت)

صوفيا: الحيلة المذهلة للتعامل مع الماضي

الجمعة 2018/06/01
صوفيا: الحيلة المذهلة للتعامل مع الماضي
مسجد بنيا باشي
increase حجم الخط decrease
تستيقظ المرأة فزعة، وتقفز من سريرها إلى غرفة المعيشة. تفتح الثلاجة وتحملق فيها لثوانٍ، لتتأكد من شيء ما، ومن هناك تهرول إلى الشباك المطل على الشارع الرئيسي، وتنظر من خلفه إلى الخارج للحظات، قبل أن تطلق زفرة ارتياح. وحين تعود إلى السرير، يسألها زوجها عما حدث، فتجيبه بأنها رأت كابوساً: "الثلاجة كانت ممتلئة بالطعام، والشوارع آمنة ونظيفة". يندهش الزوج من الأمر: "وكيف لهذا أن يكون كابوساً؟" فترد بصوت خافت: "ظننت أن الشيوعيين عادوا للحكم مرة أخرى". 

المزحة البلغارية التي سمعتها للمرة الأولى في لندن من شريك في السكن، ليست فريدة بالطبع، فالحنين إلى الزمن الشيوعي لطالما كان تيمة حاضرة في دول الكتلة الشرقية، من أول نكاتها، والروايات والأعمال السينمائية، حتى التقلبات المفاجئة في الخيارات الانتخابية. لكن زيارة قصيرة إلى صوفيا، كانت لها أن توحى بأن للمدينة علاقة أكثر تردداً بالماضي، مقارنة بغيرها.

فبمجرد الخروج من مترو الأنفاق الذي استقليته من المطار، إلى المحطة الرئيسية في وسط المدينة، كان أول ما لمحته هو مسجد صوفيا الرئيسي، "بانيا باشي"، مهيمناً على أفق العاصمة، ومذكراً بخمسة قرون من الحكم العثماني الذي استمر إلى وقت متأخر جداً، ولو بشكل صوري، حتى العام 1908. لم يكن مفاجئاً أن يحمل المسجد، الذي تحيط به حفائر حمّامات رومانية، ملمحاً من حميمية ما. فمصممه "معمار سنان"، المهندس الأكبر لسليم الأول، كما ترك بصمته في معمار يمتد من مساجد القرم والأناضول وصولاً إلى تاج محل في وسط الهند، فإنه حين وصل إلى القاهرة المملوكية مع فاتحيها الجدد كان قد أعطي سلطة لإعادة تصميمها، هدماً وبناء، كما يشاء. ربما لم يبق مما فعله سنان في القاهرة الكثير، غير شارع رئيسي يحمل اسمه في شرقها، وصلة خافته جداً بينها وبين مدن بعيدة، لا ندركها سوى عند زيارتها.

على الجانب الآخر من الميدان الذي يتوسط المدينة، تُرى القباب الذهبية لكنيستها الرئيسة، وعلى الضلع الثالث للميدان، يقف كنيس صوفيا الكبير بقبابه الضخمة التي تحاكي مخيلة أسطورية لقصور ألف ليلة وليلة. اللافت للانتباه في كنيس "السفارديم" الأكبر في أوروبا، لم يكن ما يوحي به موقعه من تأكيد على قبول تمتع به الهاربون من محاكم التفتيش الإسبانية في البلقان العثمانية، بل أيضاً خلوّه -على عكس الكثير من المؤسسات اليهودية في شرق أوروبا- من أي إشارة إلى دولة إسرائيل أو علمها. فاليهود البلغار، الذين احتفلوا هذا العام بالذكرى الـ75 لـ"الخلاص" من الهولوكوست بفضل الرفض الحكومي والشعبي لترحيلهم الى معسكرات العمل النازية، وبالرغم من وقوف بلغاريا إلى جانب ألمانيا في الحرب، كان قد أتاح لهم تحرراً من عقدة الإبادة.

لكن الأمور غالباً لا تكون على ما تبدو عليه. فذلك التعايش الظاهر، ما زال وراءه تاريخ مقلق، وحاضر لا يقل التباساً. ففي طريقي إلى الكنيس، كان عليّ أن أمر بشارع "طراقيا" الرئيسي، والذي شهد في فبراير الماضي، ككل عام، مسيرة للنازيين الجدد، لتكريم ذكرى الجنرال لوكوف، أحد رموز الحكومة الفاشية في الحرب العالمية الثانية. المسيرة التي انضمت إليها جماعات يمينية من دول الجوار، لم تزعج اليهود وحدهم، بل والمسلمين أيضاً الذين يشكلون حوالى 15% من سكان بلغاريا. فغير أن أكثر من نصف مليون من مسلمي بلغاريا، لجأوا إلى تركيا بفعل اضطهاد السلطات، في موجتين للهجرة واحدة في الثمانينات، وتلتها أخرى بعد انهيار النظام الشيوعي، فإن موجة جديدة للتضييق عليهم تتصاعد مؤخراً، منذ الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. فالتحول الديموغرافي الحاد في الدولة الأفقر في الاتحاد الأوروبي، بعد هجرة حوالى المليونين من سكانها إلى دول الاتحاد، أثار قلقاً حول توازن تركيبتها السكانية في المستقبل القريب، فإذ بنسبة المسلمين تقفز إلى الضعف من إجمالي عدد السكان في أقل من عقد.

على أحد جدران السوق المفتوح، في وسط صوفيا، ترك واحد من 60 ألف لاجئ سوري مروا في بلغاريا، كتابة بالعربية: "تبقى حلب". وعلى حائط قريب، ترك هو نفسه أو غيره، عبارة أخرى: "من حبك، يا شرف". مئات فقط من اللاجئين بقيت هناك. فنفور مشترك بين الطرفين لم يسمح سوى لليائسين تماماً منهم بتوفيق أوضاعهم قانونياً في بلغاريا. ذلك أن الوضع الاقتصادي المتواضع للبلد لم يجعلها مغرية لأحد، والاستقبال البلغاري للاجئين، بالكلاب البوليسية والضرب عند الحدود التركية، ربما كان الأسوأ في الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى اعتداءات قام بها النازيون الجدد هاتفين بشعارات ضد "العثمانيين".

وبالقرب من حافة جبل "فيتوشا"، الذي يحد صوفيا من جهة الشرق، كانت صاحبة المطعم ترتدي سلسلة ذهبية، تحمل في نهايتها اسمها مكتوباً بالعربية، مادلين. أخبرتني المرأة الثلاثينية بإنكليزية مكسرة، بأنها تحب كل ما هو عربي، وإن الأمر لم يعد صعباً، فهي اشترت السلسة من صوفيا نفسها. وهي كانت فعلاً مخلصة في حبها. ففي الخلفية كانت تصدح أغاني البوب للمغنية البلغارية الأشهر، وهي نصف اللبنانية، كارلا رحال.

داخل الغاليري الوطني ضمن قصر ملكي سابق، ويطلق عليه من فرط ضخامته والكمّ الهائل لمقتنياته، "لوفر الشرق"، كان الماضي القيصري ماثلاً، مخلوطاً بكثير من السخرية. فقيصر بلغاريا، سيمون الثاني، الذي كان قاصراً حين خلعه الشيوعيين العام 1946، وطردوه من ذلك القصر، عاد بعد سقوط النظام الشيوعي، ليقود حزباً سياسياً، وانتُخب رئيساً للوزراء العام 2001، متحالفاً مع الحزب الاشتراكي البلغاري، وريث الحزب الشيوعي السابق.



في يومي قبل الأخير في صوفيا، كانت زيارة متحف "الفنون الاشتراكية"، الذي يفترض أن يضم نماذج من الأعمال الفنية العائدة إلى الحقبة الشيوعية، محبطة. فالمتحف الذي أنشئ في العام 2011 بعد جدل سياسي طويل حول مبرر تشييده، نموذج واضح لأزمة التعامل مع الماضي. حُسم الجدل حينها، بفائدة متحف من هذا النوع، للسياحة. إذ تبدو بقايا الأنظمة الشمولية مغرية لإشباع طيف واسع من المشاعر من أول الرعب وصولاً إلى الحنين.

لكني، بعدما دفعت ثمن تذكرة الدخول، فوجئت بأن المتحف قد أغلقت قاعاته، وحجبت كل محتوياته، باستثناء الحديقة الأمامية التي تضم بعض التماثيل، وغرفة صغيرة تُعرض فيها لقطات سينمائية من فترة الحكم الشيوعي، مضحكة في معظمها. وحين عدت مع غيري من الزوار للاستفهام عن مقتنيات المتحف التي تذكرها اللوحة الإرشادية في مدخله، ردت الموظفة بابتسامه ساخرة: "هذا كل شيء".

غضبت قليلاً من تلك الخدعة، لكني، بشكل ما، أعجبت بتلك الحيلة الأكثر حصافة لتفادي التعامل مع الماضي. فكما نجح البلغار في خلع القياصرة والشيوعيين، ثم إعادتهما ليحكما معاً، فهم نجحوا في النهاية في أن يحلوا معضلة المتحف: أن يجذبوا السياح، وألا يعرضوا فيه شيئاً، في الوقت نفسه. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها