الجمعة 2018/05/04

آخر تحديث: 13:40 (بيروت)

في تبليسي: سوريون وأقباط وروس

الجمعة 2018/05/04
في تبليسي: سوريون وأقباط وروس
مسجدها يتشاركه السنّة والشيعة
increase حجم الخط decrease
قذفنا سائق التاكسي خارج سيارته، بعدما فشلت كل محاولاتنا للتفاوض حول النقطة التي ينبغي عليه إيصالنا إليها. فالرجل الجورجي الذي لا يعرف سوى بعض الكلمات الروسية بالإضافة إلى لغته الأم، لم يكن قادرا على قراءة العنوان المكتوب بالإنكليزية، ولا التعرف على مكانه في خرائط "غوغل"، وإن كان راضيا عن نفسه بإيصالنا إلى قلب تبليسي، وتركنا في وسط ميدانها الأشهر. ولم يكن الرجل مخطئا تماما، فبمجرد نزولنا من سيارته، كان من السهل التعرف على موقعنا، بعد رؤية نصب "الحرية"، الذي يرتفع في وسط ميدان بالاسم نفسه. كان تمثال القديس جورج على حصانه، المطلي بالذهب، وهو يطعن التنين بحربته، كافياً لتوجيهنا إلى مقصدنا الذي لم يكن بعيداً منه سوى أمتار. لكن تمثال القديس الحامي لجورجيا، والذي يزين صليبه الأحمر علمها، كان أيضا دليلنا إلى ما كنا سنراه في المدينة لاحقا. ففي العاصمة، التي يتمهل فيها المشاة، كل بضعة أمتار، ليرسموا الصليب على صدورهم لدى مرورهم بواحدة من كنائسها الكثيرة، وحيث يعرف أكثر من 95 في المئة من الجورجيين انتسابهم الى الأرثوذكسية قبل الهوية الوطنية، بحسب استطلاعات الرأي، لم يكن مستغرباً أن تكون أيقونة دينية هي رمزها للحرية. 



لكن نصب القديس جورج، الذي أهداه الفنان الجورجي الأشهر، "زيوراب" إلى المدينة، يحمل رمزية أبعد من مجرد التدين العميق، بل وعلى العكس منها، دلالة على التناقضات وبراغماتية التعامل معها. فتاريخ زيوراب نفسه، وأعماله المثيرة للجدل، لا تقتصر تناقضاتها على أن الرجل المعروف اليوم بتصميم الكنائس والأيقونات الروحية، كان في الماضي واحداً من أهم مصممي الأنصبة الشيوعية في العهد السوفياتي، والتي بفضلها حصل على وسام لينين، وجائزة فنان الشعب، من بين جوائز سوفياتية أخرى كثيرة. فزيوراب المقيم بموسكو، والذي يرأس أكاديميتها للفنون، ويحمل الجنسية الروسية بالإضافة للجورجية، كان قد أهدى تمثاله إلى تبليسي العام 2006، أي قبل عامين فقط من اجتياح القوات الروسية، لجورجيا لاحتلال 20 في المئة من مساحتها في حرب "الأيام الخمسة"، لتفقد جورجيا بعضاً من حريتها، بينما تحتفظ بنصب الفنان الذي ما زال مقيماً في موسكو.

كان عبورنا من وسط الميدان، إلى أحد جوانبه، مدخلا إلى مستوى آخر من التوليفات، وبراغماتية التوفيق بينها، فإلى جانب المقهى التركي الكبير الذي يبدو أن معظم رواده من العرب، كان هناك مكتب ضخم تغطي واجهته إعلانات بالفارسية عن تسهيلات للحصول على الإقامة والاستثمار وشراء العقارات. كان يمكننا لاحقا رؤية التأثير الفارسي في الفن الكنسي الجورجي شديد الفرادة، بفضل قرون من وقوع البلاد تحت النفوذ الفارسي، قبل أن تنتقل إلى العثمانيين لفترة أقصر، ومن بعدهم نفوذ القياصرة الروس. لكن المشارب شديدة التنوع لـ"شرفة أوروبا"، والتي تتوسط طريق الحرير وتربط كلاً من آسيا وأوروبا، كما جعلت المسيحية الأرثوذكسية محور هويتها في مواجهة حكامها الشيعة والسنة في الماضي، وهذا أكسبها قدرا لا بأس به من الليونة والقابلية للاستيعاب تجاه الغرباء. 

يعيش في تبليسي بضعة آلاف من الإيرانيين الذين انتقلوا لها، خلال العقد الماضي، بدافع البحث عن مكان للعيش أكثر حرية، وفي أحيان أقل بحثا عن فرصة للاستثمار، ولا يصعب تلمس وجودهم من الأسماء الفارسية المطاعم والنوادي الليلية المتناثرة في وسط المدينة. في يومي الثاني، التقيت بزميلين من أيام الدراسة من القاهرة، انتقلا إلى جورجيا قبل خمسة أعوام، للالتحاق بألفين أو أكثر من الأقباط الذين استقروا في البلد الصغير بعد وصول محمد مرسي إلى الحكم. فمن بين عشرات الألوف من الأقباط قد توافدوا إلى جورجيا آنذاك، قلة استطاعت تدبير أمورها هناك، فيما غادرت الغالبية بعد أسابيع لا أكثر. وبالإضافة للسياحة الخليجية، لحق بالأقباط، الكثير من العراقيين، مجموعة لا بأس بها من السوريين، الذين اتجه بعضهم إلى الجارة أرمينيا أيضاً، بل وحتى إلى جمهورية أوسيتيا الجنوبية (المحتلة من روسيا)، والتي أعلنت توطينها 600 سوري قبل ثلاث سنوات. 

وفي وسط خليط من اللهجات العربية، يمكن سماعها في كل ركن من وسط المدينة، يقع المسجد الجامع لتبليسي، الذي يقتسم صحنه السنّة والشيعة، ولا يبعد كثيرا عن الكنيس الكبير للعاصمة، المعروفة تاريخياً بتسامحها تجاه اليهود، والذين ما زال ألف منهم يتمسكون بالعيش فيها.

كان معظم من التقيناهم من الجورجيين، يفتخرون بتراث وطني من التسامح، وإيمانهم بأن "الغرباء هم عطية من الله"، إلا أن الواقع ربما يكون مختلفا قليلا عن هذا. فثمة زميلان قبطيان اشتكيا من أن الكنيسة الأرثوذكسية الجورجية لطالما رفضت السماح للأقباط بالصلاة في كنائسها، ولوقت طويل كان عليهم استئجار كنيسة كاثوليكية للصلاة فيها، بل أن السلطات الجورجية رفضت السماح بإصدار ترخيص بناء لكنيسة قبطية، كونها غير معترف بها من الكنيسة الوطنية. وفي الجامع، أخبرني رجل عراقي، مازحاً، أن التعايش السني الشيعي، أصبح ممكناً فقط بسبب رفض مجلس المدينة إصدار ترخيص ببناء مسجد آخر، في عاصمة لبلد، عشرة في المئة من سكانه مسلمون. 

في اليوم الأخير لي في المدينة، فسّر لي المرشد السياحي، وجود آلاف السياح الروس، بالرغم من قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين منذ العام 2008. فبعد خمسة أعوام من سقوط ألف قتيل في الحرب بين البلدين، قررت الحكومة الجديدة في جورجيا تطبيع علاقاتها مع من كان سابقاً الشريك الاقتصادي الأول، روسيا، بما فيها السماح بعودة السياحة بين البلدين.

تسعى جورجيا، للانضمام للاتحاد الأوروبي، وحصلت على موافقة مبدئية من البرلمان الأوروبي العام الماضي، وفي الوقت نفسه تستعيد علاقاتها مع روسيا، وتعمق تعاونها مع جارتها إيران، بينما تقيم مشاريع إنتاج عسكري بالشراكة مع الإسرائيليين، فكما أخبرني الرجل، في بلد صغير يقع على مفترق الطرق، ونقاط التماس الإمبراطورية: "لم يكن للملك ديفيد الباني (1073- 1125) أن يصنع مجد جورجيا بهزيمة الأتراك فقط، بل بفضل التجارة معهم ومع غيرهم بعد ذلك".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها