ثمة من يرى الفكرة وقحة. التجرؤ المُحرَّم على فن السينما المرموق: هل بات بعض الدراما التلفزيونية مؤهلاً لألقاب من نوع "السينما الجديدة" أو "وريث السينما"؟ هل يستحضر النقاش الراهن، الجدال الشهير بين ثيودور أدورنو ووالتر بنيامين حول موسيقى البوب والجاز وتفوق الموسيقى الكلاسيكية؟ هل ما زال في الإمكان، اليوم، الركون إلى التعريفات التقليدية لـ"الثقافة الراقية" في مواجهة تلك "الجماهيرية"؟
المؤكد أن صناعة المسلسلات التلفزيونية المطوّلة، خصوصاً الأميركية والبريطانية، قامت بقفزات كبرى خلال العقدين الماضيين. كانت الريادة لشبكة HBO، ثم التحقت بالركب وتفوَّقت، شبكات "شوتايم" و"نيتفليكس" و"أمازون". تبيّن أن المُشاهد، حتى في ربوع منزله، لا يكتفي بالضرورة بما يتاح له مجاناً، وهو مستعد لشراء المحتوى التلفزيوني النوعي حين يتوافر، تماماً كما لطالما بادر إلى شراء تذاكر السينما. بل إن طقوس المشاهدة المنزلية ومواعيدها، والتي نستمتع جميعاً بفرديتنا في جدولتها، فتحت الباب على مصطلحات جديدة من قبيل "المُشاهد الشَّرِه" الذي يفرط في "التهام" منتج واحد يختاره، في حين ما عاد مُعبّراً تماماً وصفُ "رأس البطاطا" المستلقي على الكنبة مُجهِداً الريموت كونترول، ومقولة "يدخل كل بيت" ماتت وشبعت موتاً. التطور التكنولوجي ساهم كثيراً، وهو بالطبع تطور أفادت منه القطاعات كافة ومن بينها السينما. لكن التلفزيون بات يقارع الفن السابع في ملعبه التقني: حجم الشاشة، ذكاؤها، نوعية الصوت والصورة فائقة الدقة، وغيرها. أما الملعب الفني، فهو حيث تدور حالياً مباراة حامية بين بطلين.
نعم، هما بطلان متكافئآن في قوة الإبداع ومِراس الإنتاج وتقنيات الإدهاش، كلٌّ على طريقته وبأدواته. الأرجح أن المعادلة هذه ما عاد ممكناً نكرانها، وباعتراف أشرس محبّي السينما، بل والعديد من صنّاعها أيضاً، ومنهم المخرج ديفيد لينش. وبالتالي، بات ضرورياً هدم أصنام "الثقافة العليا" (وهي بالمناسبة متغيّرة من أيام سقراط الذي خشي على سمو التقاليد الشفهية من الاندثار بسبب التدوين وبأثر من "القراء الكسالى")، وذلك إفساحاً في المجال النظري والعملي أمام فهم نقدي وحِرَفي وفنّي لما يحدث الآن في ساحة الفنون البصرية.
نكاد نجزم بأن كل مَن شاهد Mad Men وBreaking Bad وإلى حد أقل Vikings وغيرها الكثير من المسلسلات في شبكة "نيتفليكس" وسواها، قد شعَر في لحظة ما بأنه أمام خلطة من أسحار الكتابة الروائية والسينما، وأن السحر لم يعد حكراً على تجربة المشاهدة في عتمة صالة سينما نتشاركها مع جمع من الناس، ولا على المتع البصرية والعاطفية والذهنية التي نستقيها من الأفلام، جماهيرية تجارية كانت، أو نخبوية، أو تجريبية مستقلة. لكنه سِحر مختلف. الساعات الممتدة بالعشرات، تتوّج الكاتب ملكاً، وتتيح تطويراً أعمق للحكايات المتشابكة والتيمات والشخصيات، خلافاً لحيز الساعتين المتعارف عليه سينمائياً، وما عاد مستغرباً أن يشعر المرء باشتياق فعلي لشخصيات مسلسل أتمّ مشاهدة حلقاته. دراما "نيتفليكس" وأشباهها هي وسيط الكاتب الذي يُجعَل إلهاً يلعّب خيوط السوسيولوجيا والسيكولوجيا والسياسة والسرد وملامح الحقبات التاريخية المختلفة، كما لا يُنسى أن الحوار مفتاح الدراما التلفزيونية، على عكس الصورة كعُملة سينمائية أولى. حتى السينماتوغرافيا بمعناها المكرّس احتواها هذا التلفزيون الذي سمح بتداول إخراج الحلقات بين أكثر من فنان، ما يمنح المتفرج شخصية بصرية متمايزة لكل حلقة، لكن مع مراعاة الروح الأم للمسلسل ككل، وبتواضع مَن يبحث عن الإطار الأمثل لمزاج هذه الحلقة أو تلك. لذلك، ربما، لا أحد يتذكر اسماء مخرجي الحلقات، بل الكتّاب، وطبعاً الممثلين الذين صار مألوفاً أن نسمع انتقالهم كنجوم سينمائيين إلى التلفزيون، أو أن مسلسلاً ما صنع ممثلاً يتسابق عليه المخرجون السينمائيون. ولعل ضمور الدور الإخراجي هو ما يجعل المتعصبين للسينما يعتبرون الدراما التلفزيونية، ولو كانت فائقة الجودة، أدنى مرتبة. وهذا ما يحتاج إلى مراجعة شديدة اللهجة، بعدما أصبح الإعلان عن موسم جديد من مسلسل ضارب، حدثاً ثقافياً بكل معنى الكلمة.
وبعد.. ولمّا كانت السينما، تاريخياً، ملاذاً لطرح "التابوهات" التي لا يتقبلها التلفزيون (حينما كان المُعلِن هو الرقيب الأقوى)، فهذا أصبح من الماضي. بل لعل انقلاباً ضدياً قد وقع، والكلام هنا عن السينما السائدة mainstream، العالقة الآن في الرمال المتحركة لتيمات المغامرات والأكشن والرعب والأنيمايشن والأفلام العائلية. ناهيك عن حَلبِ الأفلام الناجحة تجارياً بأجزاء ثانية وثالثة ورابعة، حتى يجف ضرع المتعة. والحال إن الحرية الإبداعية باتت تتمتع بمساحة رحبة في التلفزيون المدفوع. ويكتب معلّق في موقع إلكتروني متخصص كيف أخبره صديقه الكاتب التلفزيوني الذي يعمل حالياً مع "أمازون"، أنه طُلب منه بالحرف "كسر كل القواعد".
والحال، لعل أكثر المسالك جدوى في الجدل بشأن المعطى الفني والإبداعي النوعي بين الدراما التلفزيونية والسينما، هو البحث في الشكل، لا في المحتوى ولا في "الرقي". لقد باتا شكلين مختلفين للسوية نفسها من الجمال الذي لا جدال في مسألة أخذه على محمل الجدّ النقدي. السينما قماشتها الصورة، الصمت الذي قد يحل بسهولة محل الحوار أو حتى الموسيقى التصويرية، إمكانية النفاذ إلى عقل الشخصيات ووجدانها بلا كلام أو أحداث كبرى، تعدد أساليب السرد وأصواته في مقابل "الصوت الثالث" الموضوعي الذي ما زال يهيمن على الدراما التلفزيونية المتكئة على الحبكة، الكادرات الواسعة، التحرر من الاستديو، تكثيف الزمن أسوة بالتأليف الموسيقي في مقابل سيلانه التلفزيوني الذي يقارب الأدب الروائي، والدراما الأهم إذ "تحدث" بين الشاشة السينمائية والجمهور الذي يشارك في صنع المعنى على ما قال جان لوك غودار ذات مرة.
والمؤكد أنه قد آن الأوان لتفرد الفضاءات الثقافية الرصينة، بأنواعها ووسائطها المختلفة، المساحات التي تستحقها الدراما التلفزيونية الصاعدة، بموازاة السينما. إذ جدير بنا أن نستمتع بالبرتقال والتفاح معاً بعد التيقن من استحالة مقارنتهما، وبعد اندثار نظرية استئثار السينما بالـ"معلّمية".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها