الإثنين 2018/12/31

آخر تحديث: 12:34 (بيروت)

الروائي لم يعد ينتشل يداً من الغرق(*)

الإثنين 2018/12/31
الروائي لم يعد ينتشل يداً من الغرق(*)
ما عاد الناقد الأدبي حاميَ الغابة
increase حجم الخط decrease
(*) في التقليد القابالي، خلق الله الكلمات أولاً من أجل أن تقوم بالأفعال الأخرى. في العالم العربي تُخلَقُ الكلمات اطراداً، لكن دونما أفعالٍ تُذكر. وإذا كان هنالك، بحسب الروائي الإسباني خافيير مارياس، سبعة أسباب قويّة لعدم كتابة رواية وسبب واحد فقط لكتابتها، ففي لبنان تتعدد دور النشر وتتفاقم حفلات التوقيع حتى أمست أكثر من الهم على القلب...


في الماضي، مَن شاء أن يدخل غابة الأرز، عليه أن يقتل "خمباباً" أولاً. اليوم ما عاد الناقد الأدبي حاميَ الغابة، والروائي لم يعد يكتب لينتشل يداً من الغرق، وإنما باتت كتاباته نفسها "بلون الغرق" (بتعبير سيوران)، تُجاري أهواء دور النشر (خاصّة غير المرخصة) وغاياتها الربحية لا الحسّ الإبداعيّ. وبالتالي، لم يعد الكاتب ذاك اللاعب الذي ينتصب في الشارع، ليقذف بكرات البيسبول على النوافذ المقفلة والصدئة ليلاً، وإنّما أمست البطولة من نصيب الرواية المشبعة بالمشاهد الجنسية المرتكبة (غير الهادفة والمبرّرة) وصور العنف المبتذل، أو تفسير الأحلام والفراسة، والعنوان اللافت..الخ، تماشياً مع أهواء القارئ العربي الهشّ بصورة عامة. أذكر في هذا الصدد رواية بعنوان "خذني بِعاري" التي حققت مبيعاً خيالياً لأنّ العنوان نفسه دفع الناس لشرائها...

ويد القارئ العربيّ ليست بريئة من هذه الذبيحة الأدبية، على عكس ما يظنّ كثيرون، كونه أسقط الروائيين من أبراجهم العاجيّة، حيث ينحتون اللّغة لقرّاء قد لا يفقهون منها إلاّ القليل، إلى بقاع يسهل بلوغها بلا تعاريج لغوية، وهذه ليست بمثلبة طبعاً. فنجيب محفوظ كان يجالس الناس في المقاهي ويرسمهم بكلمات تحاكيهم... إلّا أنّ هذه الظاهرة الإنتقائية التي ترتكز بالدرجة الأولى على عنوان الكتاب، فاللغة المحاكية لمخزون القارئ اللغوي، والفكرة البسيطة والمبسّطة، أزالت الكثير من المعوّقات الأدبية التي كانت لتعترض الروائي لو واجهه قارئ صلف جلّاد، يُحاكم بالسّوط... فكان للقاصي والداني، والثائر والمقلد والطامح للخلود، والطامع بربح مادي، والمتألم، والمبعثر، والمشرّد، والمُغازِل لنفسه أن يخطّ بقلمه نوازع نفسه بحريّة، وغالباً ما يكون نجاح هؤلاء أقصر من عمر حشرة...

هذا فضلاً عن بروز أنواع أدبية كتابية حديثة، تزامناً مع الحركات الثورية والمأسوية في العالم العربي، كأدب البوح، والأدب النسوي المناوئ للممارسات الذكورية، بحيث شكّلا طبقيْن سارع الكثيرون والكثيرات لإعدادهما وفق معاييرهم الفكرية الخاصة والنكهة التي يشتهون تنفيساً عن الرأي، وربما جرياً خلف الجوائز...

الجوائز لا تُسبي الرواية العربية، غير أنه كان بالإمكان أن يُنظَر إليها بمهابة لولا أن فيها شيئًا من سقوط واهتراء. وهي بالتأكيد ساهمت في ذيوع الرواية، إلّا أنّ "الأكثر مبيعاً" أو ذيوعاً ليس معياراً للكاتب الجيد، ربما يكون حامل كأس نبيذ أهمّ من حامل كأس "نوبل" في سرد ما يقرصنا من الداخل.

أما بالنسبة للبطولة الأسطورية، فلكلّ زمن أسطورة ورجال. البطولة الأسطورية في عصرنا اليوم أجدها تقهقرت لصالح البطولة الافتراضية. مارك زوكربرغ هو البطل الاسطوري الافتراضي في القرن الحادي والعشرين مثلاً. في ظل التمزق العربي والأيديولوجيات المتباينة فيه، بات لكل شريحة تصوّرٌ خاص لبطلها الأسطوري، وهي مزايا لم تأتِ عفو الخاطر، بل نتيجة تراكمات ذهنية ألِفتها شريحة وقاعدة شعبية دون أخرى. فكان لكل منها بطل محلي وربما نصف إله، لذا غرق ذاك البطل العربي الأسطوري الذي يشق العباب من المحيط إلى المحيط...

الرواية العربية إلى أين؟!... في ظل اندفاع الفئة الكبرى من القراء إلى مطالعة الرواية الأجنبية أو المترجمة، نجد الرواية العربية في حالة من الإعياء والعجز شكلاً وموضوعاً. وهذا طبيعي، لأن تخلّف الأدب من تخلّف المجتمعات او نتيجة له. والمجتمعات المتخلفة -في الأغلب- لا تنتج أدباً راقياً، لأن الأدب مرآة المجتمعات. القارئ العربي مبعثر بحاجة إلى من يأخذ بيده إلى عوالم إبداعية مثيرة بعيدة من التمزّق والإبتذال والسرقات الأدبية والعنترات والمحرمات والولادة الصناعية للسرد الروائي. بيد أنّ القارئ المنكبّ على مطالعة "الأكثر مبيعاً وذيوعاً" في العالم بحاجة إلى شيء من الوعي الإنتقائي، فليس كل ما يلمع ذهباً!

في الختام، ما نعيشه اليوم يُفسد أكثر مما يأكل مثل الفأر، وقد ضيّع الأمكنة حتى بات رأس المرء هو مكانه الوحيد، هذا الرأس الذي يعيش المخاض أظنّه سيُطلق يوماً الرواية العربية المتوارية إلى النور...


(*) مساهمة فرح الدهني في ملف "الرواية العربية... إلى أين؟"

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب