الجمعة 2018/10/19

آخر تحديث: 11:01 (بيروت)

"الخروج من البلاعة" لنائل الطوخي: ملحمة لعصرها

الجمعة 2018/10/19
"الخروج من البلاعة" لنائل الطوخي: ملحمة لعصرها
يسرد الكاتب تفاصيل "المعجزات العادية وغير العادية" بلغة أقرب إلى الابتذال
increase حجم الخط decrease
"قبيحاً قبحاً حلواً، وحلواً حلاوة قبيحة"، ليست هذه واحدة من الحيل اللغوية التي تضع المتضادات جنباً إلى جنب في علاقة ترادف قسرية، فتدهشنا للحظة لتطاوُلِها على قواعد المنطق، قبل أن تتبدد لذتها لخلوّها من معنى. فالعبارة التي تأتي على لسان الراوي، في رواية "الخروج من البلاعة" (2018) لنائل الطوخي، تكثف تلك السلسلة الطويلة من الاضطراب والتشوه والقسوة التي تمتد من أول النص إلى آخره، ليملأ القلب بما تشعر به البطلة نفسها، "نعمة الله، حزن مع فرحة". لا تطرح "الخروج من البلاعة" معادلة بسيطة للتناقض، بل تستدرج القارئ، وتورطه خطوة بعد أخرى في عالم يفتقد للمعيار، ولا مسطرة فيه للقياس الجمالي والأخلاقي، ليس بالنسبة إلى شخصياته الروائية، بل للمتلقي نفسه الذي يجد نفسه عاجزاً عن إطلاق الأحكام.  

فبكل بساطة يمكن الادعاء بإن في رواية الطوخي، مقومات البنية "ما بعد الحداثية". فكل شيء في حالة سيولة دائمة، وبلا حدود واضحة، يختلط الحلم بالواقع، ويصعب تبيّن الفارق بين خيال "الواقعية السحرية"، وهلوسات البطلة المرَضية وتشوشها. فبين الأطفال الذين يتصرفون كالبالغين، والموتى الذين يرافقون الأحياء ويحادثونهم، والتداعي الكامل للفوارق بين العالم المادي والافتراضي في الشبكة، لا يمكن التيقن من مصداقية ما تخبرنا به "حرنكش"، عن نفسها، أو عن مدى مسؤوليتها عن الأحداث، أو حتى رأيها في الثورة. فهي تتغير من النقيض إلى النقيض من صفحة إلى أخرى، ومع هذا تظل موحية بتماسك كامل، واستمرارية مقنعة إلى أقصى حد.

لكن الكاتب نفسه قد لا يكون ممتناً لصفة الـ"ما بعد حداثية". فتدفق الأحداث يحمل بصمة أكثر كلاسيكية. تبدو "حرنكش" بطلة لملحمة أسطورية، نصف إنسانة ونصف آلهة، متورطة في حلقات متكررة من التراجيديا، وتقف في منتصف الطريق، بين سيزيف الذي لا تنتهي معاناته، وإليكترا التي تحمل مسؤولية الانتقام من أقرب المقربين. يربط محمد سرساوي، في مقالة عن الرواية في جريدة "الأخبار" المصرية، بين حرنكش وهاملت، ويبدو محقاً إلى حد كبير. لكن بطلتنا التي "تقتل حتى تكون الدنيا أحلى"، بكل بساطة وعادية، لا تشبه الأمير الدنماركي في تردده على الإطلاق. فهي بالأحرى، تشبه بطلة أكثر شرقية، خليط من الربة الهندوسية "كالي" و"أمنا الغولة"، حيث تختلط الأمومة بقسوة وحشية، والمعاناة بحق الانتقام المروع.

وببساطة أيضاً يمكننا أن نرى في رواية حرنكش، ملامح عمل نسوي متكامل، وإن كان لهذا أن يثير جدلاً مستحقاً حول حق التمثيل أو مصداقيته، حين يكتب الرجال عن معاناة النساء. لكن الطوخي بلا شك ينجح في وضعنا في مواجهة مجتمع مشوه، تحمل نساؤه الوزر الأثقل لاضطرابه، ويُمسَخن هن أيضاً بقدر القسوة تجاههن. ولا يمكننا أمام هذا، سوى التعاطف مع التشوه. فالطوخي لا يسعى إلى نفي القياس الأخلاقي كما يبدو على السطح، بل إلى دفعنا إلى أخلاقية مليئة بالدفء، تشبه تلك التي نادت بها الروائية الإيرلندية، آيريس مردوخ. أن تضع نفسك مكان الآخرين، لا أن تتحلى بالشفقة تجاه آلام حرنكش، ولا أن تتفهم بشكل عقلاني هلوساتها وجرائمها وتناقضاتها، بل أن تتعاطف معها بلا أحكام مسبقة، أي أن نصدر أحكاماً مؤسسة على العاطفة وأخلاقية قائمة على الحنان ومعايير مصدرها الإقرار المؤسف بشراكتنا في مأساة "الشرط الإنساني".  

يسرد الكاتب تفاصيل "المعجزات العادية والمعجزات الغير العادية"، التي تمتليء بها روايته، بلغة أقرب إلى الابتذال، ولا يصعب أن نتصور وصفها بسهولة بأنها "فن منحط" بالتأكيد. فالطوخي يصل في تطوير لغته الخاصة جداً، والتي وظفها في أعماله السابقة، إلى مستوى مدهش من الإتقان والسلاسة، على لسان حرنكش. فسرد يشبه في وقعه حكايات الجدات، ومفرداته جلسات النميمة بين الجارات في أحياء قاع الطبقة الوسطى القاهرية، ولا تبعد حركته عن نقلات الحوار في المسلسلات التلفزيونية مطلع التسعينات. لا يتحول إلى كتابة بالعامية، أو نقل للغة المحكية إلى عالم الأدب، بل هو اختلاق لغة مدهشة وشديدة الغنى والفرادة، تحتفظ بثقلها الأدبي، وفي الوقت نفسه، تنقل خفة العامية وحميمية اليومي ومرونة المحكي وثرائه.  

وفيما تأخذنا "الخروج من البلاعة" في رحلة طويلة، مع انتقال حرنكش من شقة إلى شقة، ومن زوج إلى آخر، ومن حي إلى آخر، وتكشف لنا، في خضم الثورة المصرية، روابط الداخل بالخارج، والبيت بالشارع، والشخصي بالعام.. فإن الطوخي يرسم، بتأن وإحكام، عوالم مشوهة وفانتازية وقاسية وعجائبية، بلا شر وبلا خير، وبكل الشر وبكل الخير في الوقت نفسه. عوالم تغمرها دفقات من الحنان والرضا والشعور بالنعمة والتعاطف، تجاه الشخصيات كلها تقريباً، وضدها أيضاً. لا حكم أخلاقياً ممكناً، ومع هذا يظل الحياد مستحيلاً. ومع التورط، الذي لا يمكن الإفلات منه، يجد المرء نفسه محايداً إلى أقصى حد، على أرضية من التفهم، بل والحماسة أحياناً للبلاهة والجنون والشر، كما للـ"غُلْب" والمعاناة والقسوة العارضة. وفي نهاية الرحلة الخشنة التي تتضمنها قراءة الرواية، تترك حكاية حرنكش مع قارئها، خليطاً من المشاعر المتضاربة والمقلقة، وغير المحددة، وحملاً ثقيلاً من الدفء ووجع القلب، يليق بملحمة مصرية معاصرة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها