وصل صديق من دمشق إلى بيروت وأهداني هذا الكتاب ("دار الخيال"، بيروت، طبعة أولى 2015، 460 صفحة). بدأت بقراءته قبل ثلاثة أشهر، وتوقفت قبل إنهائه، تعباً من إصرار الكاتب على الإنشاء الأدبي. لكن في الأسبوعين الماضيين، حدث أن شاهدت فيلم "تدمر" لمونيكا بورغمان ولقمان سليم، الذي يروي فيه ناجون لبنانيون بعضاً من تجاربهم الرهيبة والمروعة في معتقل تدمر الصحراوي. ثم جاء تقرير الخارجية الأميركية الذي يؤكد ما كنا نسمعه عن إبادة عشرات الآلاف من المعارضين والمعتقلين، وحرق جثثهم في معتقل صيدنايا.
هذا ما حرضني لأن أعود إلى أوراق عباس عباس، التي تروي تجربة المطاردة ثم الاعتقال في أقبية المخابرات السورية في ثمانينات القرن الماضي، أي في بداية تغول النظام وإرسائه الرعب والصمت قانوناً للحياة السورية.
يبدأ الكتاب بموت سجين في نهاية العقد الخامس من عمره "موفور الصحة والوجدان والنسل". سكتة قلبية. بعد أيام على وفاته، يرد اسمه في رأس قائمة المفرج عنهم! هذه المفارقة، تذكّرنا بما لا يحصى من أخبار ووقائع ومفارقات شبيهة، تدلنا على المزاح الشيطاني الذي يهواه نظام الأسد.
يُعرّف عباس عباس نفسه: "أنا السجين تحت الأرض ذو الرقم 6 و13 و4 والمزدوجة 2 و1 فرع فلسطين، والرقم 6 و17 و13 و11 فرع التحقيق العسكري، وفوق الأرض أنا نفسي الرقم 18 جديد و24 و2 في سجن تدمر، والرقم أ يمين 4 وب يسار 5 وب يمين 4 وج يسار 1 وأ يمين 8 وب يمين 9 و أ يمين 6 وأ يمين 8 والرقم 36 تحت الأرض في سجن صيدنايا". هي أسماء ورموز وأرقام مهاجع وزنزانات، هي مراحل تحويل الإنسان المواطن إلى كائن مسحوق وذليل. وأوراق عباس تروي بالضبط ذاك الصراع المأسوي الذي يخوضه ضد وحشية القمع والتعذيب صوناً للروح وللكينونة: "كل هذه الزنازين والمنفردات والغرف تختزن ملامح خاصة من الضوء والعتمة والرائحة واللون والدم والحزن والألم والأبعاد واختلاس النظر والسمع والشم وذكريات من مروا بها: إنها محفورة في أخاديد ذواكرنا وأجسادنا..".
أبعد من مرويات السجن ويومياته، والمنازعة غير المتكافئة بين السجين والسجان، تقدم فصول هذا الكتاب، عبر السيرة الذاتية، اختزالاً بليغاً للحياة السورية في زمن "البعث" وحقبة الأسدين الأب والإبن: "ولدت في الفجوة الفاصلة ما بين الاستقلال الوطني والاستعباد "الوطني"، وأنني أتذكر الأول حلماً، وأعيش الثاني كابوساً. ألمّت بي بذرة الواجب منذ الغبار الحقلي الأول على أظافري، وأخذت أغمار الواجبات المنزلية والمدرسية والعسكرية والحزبية والقطرية والقومية والأممية تتراكم حتى أطفأت حقوقي عن بكرة أبيها، بما فيها الحق في أداء الواجب بإرادة حرة".
على هذا النحو، وقبل الولوج إلى عالم الزنزانات والاعتقال، يعيش السوري منذ ولادته في سجن كبير، كما معظم المواطنين العرب في بلادهم، وإن كان عراق صدام حسين وسوريا الأسد وليبيا القذافي هي الأسوأ والأشنع سمعة. ففي هذه البلدان الثلاثة تحديداً كان القمع الدموي على نطاق واسع صنوَ السلطة وصورتها وممارستها الأبرز. يقول عباس: "إن كان سدنة تدمر وسجّانوها لم يتثقفوا بآلام الأنبياء في الكتب المقدسة، ولا بصنوف العقاب الفرعوني والكنسي والعباسي وسواها، فكيف تأتى لهم كل هذا الفقه الغريزي في ابتداع وسائل لها جبروت الإركاع والإذلال والإماتة والتشويه الخارجي والداخلي لأجمل الكائنات الحيّة؟".
أمضى عباس نحو 14 عاماً في سجون النظام المتعددة، قضى منها خمس سنوات في زنزانة منفردة، وتعرض لنوبات جنون ثلاث مرات تطول أوتقصر، وأصيبت يداه بالشلل لأكثر من شهرين.. زمن هلامي وكابوسي ومناخات جهنمية نستفظع احتمالها، كأن يطلب هذا السجين من الجندي قداحته كي يحرق باطن قدمه كيّاً لدمّلة متضخمة بالقيح والالتهاب، وكأن يضطر إلى نتف شعر لحيته شعرة شعرة، لأن اللحية ممنوعة وشفرات الحلاقة ممنوعة.
وبعيداً عن "حفلات" التعذيب المتواترة، يعيش السجين ما هو أقل من الحياة، وأقرب إلى الحال البهيمية: "لم أرَ أياً من أفراد عائلتي في المنام منذ ثلاث سنوات. ولم أشم سوى رائحة عرق العجز، ولم أحتذ شيئاً في قدمي، ولم أشتمل بعمامة، ولم أر الشمس إلا نورها المنعكس على بقعة ضيقة حصوية مبقّعة بدمائنا، لم أر ثياباً بلون الحياة، لم أستحم إلا بالماء (المغلي) الذي سلخ جلودنا في الحمام الجماعي، والفاتر الذي سخّنه القيظ في الأنابيب، ولم أستخدم قلماً أو كتاباً أو جريدة أو أي قصاصة تُقرأ، لم أرفع صوتي إلا ليسمعه أقرب جار إليّ، لم أنم إلا وعيناي معصوبتان، ولم أجلس يوماً ووجهي إلى القبلة مخافة أن يعتقدوا أنني أصلّي، ولم أرفع بصري إلا خلسة، ولم أفعل شيئاً بإرادتي...".
على امتداد 460 صفحة نقرأ ما يفوق الاحتمال من ممارسات همجية "منهجية"، تمارسها مؤسسات التعذيب والإذلال، التي هي أم مؤسسات النظام البعثي الأسدي، بل هي ماهية النظام وجوهره، حيث لا سلطة له ولا ضمان لاستمراره إلا عبر القتل والنفي والتعذيب والاعتقال وإنزال الرعب في نفوس عشرات الملايين من سكان سوريا على نحو مستدام. نظام حريص على أن لا ينسى أي "مواطن"، ولو للحظة، البطش المميت الذي ينتظره إن تكلم أو خالف أو اعترض أو تنفس شهقة حرّة. ومنذ العام 2011، أظهر النظام استعداده للذهاب بعيداً في الهمجية المنهجية وفق ما كشفه ملف "قيصر" (55 ألف صورة لـ 11 ألف سجين ماتوا جوعاً وتعذيباً)، وصولاً إلى "الحل النهائي" الهتلري: الإبادة الجماعية للسكان والتدمير الشامل للمدن والمحرقة الصناعية لضحايا المعتقلات.
"توقاً إلى الحياة" لم يره مؤلفه عباس عباس، الذي مات قبل صدور الكتاب بثلاث سنوات. وهذا بعض من الحظ التعس الذي يلاحق من يعيش في "سوريا الأسد" ولو خارج الزنزانات.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها