الخميس 2017/02/02

آخر تحديث: 12:41 (بيروت)

الجنس المَخْصيُّ في الرواية العربية

الخميس 2017/02/02
الجنس المَخْصيُّ في الرواية العربية
من أعمال فؤاد دحدوح
increase حجم الخط decrease

 

الجنسُ أشدُّ الأفعالِ البشرية بَهْجةً وأكثرُها مَجْدًا، وربما بسبب ذلك أخفاه الناسُ وظلّ بينهم فعلاً مقهورًا بلا تاريخٍ علنيٍّ، يتحرّك سوسيولوجيًا ونفسيًا ضمن سرديّةٍ عَمِيّةٍ تهيجُ في الصّمت مَوْجُوعَةً بذاتها ومُوجِعَةً لذوات الناس في آنٍ؛ إذْ كلما تاقتْ فيها الأجسادُ إلى الأجسادِ حال بينها سُلطانُ الأخلاق، وروّضت جموحَها العقائدُ، ونالها التأثيمُ والنّبذُ والتجريمُ، وتَحوّل توقُها إلى اللذة إلى "معاناة أخلاقية" بعبارة جورج باتاي في "حكاية العين".

والمعروف أنّ الجنس في الدراسات الإنسانية هو ثالثُ ثلاثةِ ممنوعاتٍ هي الدين والجنس والسياسة (علما وأنّ ممنوعات الناس كثيرةٌ لا تُحيط بفهمها الدراساتُ)، غير أنه الوحيد منها الذي جعل السماء ترغب في أن يكون لها بُعدٌ أرضيٌّ، أي أن تؤمِن بما هو آدميّ. وصورةُ ذلك أنه إذا كانت الديانات رسالةَ الله إلى الإنسان، وإذا كانت السياسة رسالةَ الإنسان إلى الإنسان، فإنّ الأساطير القديمة قد ترحّلت بالجنس من عالم الأرض إلى عالم السماء، وجعلت منه رسالةَ الإنسان التي استلذّتها الآلهةُ فآمنت بها وأطاعت وصاياها، حيث لا تُخفي الميثولوجياتُ البابلية والإغريقية والسومرية والفرعونية والعربية القديمة وجودَ آلهةٍ للجنس امتزجت فيها قداستُها السماويّةُ برغبتها الأرضيةِ، فإذا هي تختصُّ بالشأن الجنسيّ وتتحمّل مسؤوليةَ تدبير شؤونه بين الناس على غرار إيروس اليونانيّ وعشتار البابلية وإنانا السومرية وحتحور الفرعونية وسواع العربية.

وعلى أهميّة ما في هذه الميثولوجيات من احتفاء بالجنس فإنّ الوقائعَ التاريخيةَ تَشِي بأنه عاش أزمةَ تأثيمٍ مزمنةً عبّر عنها التجاءُ الناسِ إلى منعه بتقنية الخِصاءِ، ونبذِه بمقولة العهرِ، وجعله ضِدًّا للعِفّةِ، وهو أمرٌ حفزَ الجنسَ لأنْ يُراقب ذاتَه بذاته ويُصرِّفُ شأنه بالامتثال للعرفِ حينًا وبالاحتيال على نواميسه أحيانًا أخرى؛ إذْ كثيرًا ما يهرب من قانون الواقع ليعيش في انسيابية الوهمِ (ومثالنا الراهنُ ظهورُ الدُّمى الجنسية البلاستيكية). وقد تنامى تأثيمُ الجنس في المتصوَّر الثقافي حتى أبطلَ وَصْلَ الأجسادِ بالأجساد إلا عبر أشراط اجتماعية ولم يُبقِ من حَنينها إلى بعضها بعضًا إلا خيالاتٍ مُنْهكَةً تُرْوى في السِرِّ؛ يرويها الفنُّ ويُوهم بحقيقتها كيْ تبقى كنايةً عن زمن آدميٍّ غير حِسابيٍّ.

ولن أستغربَ أنْ يأتي على الناسِ يومٌ (يوم أسود) يعجزون فيه عن الجنس فلا يبقى لهم من قدرةٍ عليه إلا أن يتخيّلوه، وأخشى حينَها أن يكون الخيالُ حسيرًا، وربّما يبقى عزاء البشريّة ممكنا بقدرة مبدعيها على إحياءِ خيالها الجنسيِّ وتطريتِه بماء خيالهم. ويبدو لي أنّ الكتابة الروائية، خاصة من جهة طبيعة نوعِها الفني، تنهض الآن لدى هؤلاء المبدعين فضاءً شبهَ عموميٍّ تنتعشُ فيه فعالياتُنا الجنسيةُ وتجدُ سبيلَها إلى تدبير حضورها اللغويّ خارج أطر الإكراه والمنع والابتذال.

غير أنّ ملاحظةَ المنجز الروائي العربي تؤكّد تلكُّؤَ الرواية في تسريد الجنس ومعاملتها له معاملةَ الممنوعِ، أو هي لا تستعمله، إذا ما استعملته، إلا تجارةً رابحةً وبَهارًا ترشُّه على أحداثها لتُخْفي به ما فيها من وهنٍ أو لتصير به أكثر إثارةً لشهية القرّاء، وهذا ما أراه قد زاد من عزلة الجنس وأفقَده ما به يرقى في السرد إلى مراقي الحال الإبداعية.

وإني أزعم، زَعْمَ التأكيد، أنّ قراءةَ روايةٍ خاليةٍ من الجنسِ فعلٌ يُشبه واقعةً جنسيةً مع جُثّةٍ، هكذا يبدو لي الأمر، فالجنس في السَّرد كالجنس في السرير: سِرٌّ دافئٌ وحكايةٌ سُرورٍ حميمةٌ، فلا يوجد جنسٌ بلا حكاية تُحْكى بالرَّهبة وبالالتفات يمينًا وشمالا، هو حكاية الجسد إذْ يتحوّل بالكامل إلى أعضاء جنسيّة تتكلّم ببلاغةٍ، وينصهر في غيره انصهارًا يُتْعِبُ ويُطْرِبُ، وفي الحاليْن يكون الجنسُ المُسَرَّدُ علامةً تُنبئُ بحضور الحياة في جسد المقروء وفي كيانِ القارئ معًا. ولن أُخْفي أنّي لو كنتُ روائيًّا لاخترتُ أن أجعل الجنسَ روايةً لا أنْ أحوِّلَ الروايةَ إلى جنسٍ كما هو شائع بيننا اليوم، غير أنّي لستُ في الناسِ إلاّ قارئَ رواياتهم.

بقي أن أشير إلى أنّ قراءتي الروايةَ العربيةَ، أعني ما تسنّى لي الاطلاع عليه من إصداراتها، أوقفني على مجموعة من الملاحظات المتصلة بكيفيات اشتغال الجنس فيها. وهي ملاحظات تُحيلُ جميعها على حقيقةِ أنّ الجنسَ لا يحضر في الرواية، على الأقل في أغلبها، إلا باحتشامٍ وضمن مشهديات متفرّقة تفتقر إلى ما يُسْندها فنيًّا، ذلك أنه لا يتكوّن فيها تكوُّنًا حدثيًّا تُعبِّر عنه توتّراتٌ حكائيّةٌ معلومةٌ، تُمهّد له وتستدعيه وتُبرّره حتى إذا لم يكن من الرواية حكايتَها كان من المرويّ العام -على الأقل الممكن- لَبِنةً منصهرة في باقي لَبِناته وخادمةً لدَلالاته. فالطاغي من أمره هو أنّه يمثّل أحوالاً معزولة ومجانية مُعلَّقة جميعها على حبلِ الخيانة، ولا يؤثّر وجودُها في بنيةِ الحكاية، بل ولا يسبّب حذفُها إرباكًا لمسار السرد.

وفي هذا الشأن أذهب إلى القول إنّ إصرار الكتّاب على حضور الجنس في رواياتهم ليس في أغلبه إصرارا ذا غايات فنية ومضمونية وإنما هو إصرار ذو خلفيات نفسية وتجارية، وتفصيل ذلك أني أجد الروائيّين يُصرِّفون الجنس في مكتوباتهم تصريفًا ينصبّ فيه جهدُهم على الإيحاء بالفعل الجنسي وحشدِ ما يُغري به من أوصافٍ بقدر ما تقوله تُطوِّقُه وتسجنُه في نمطية باردة، ومثال ذلك روايات واسيني الأعرج التي تُمجّد الجنس تمجيدًا مُراهِقًا دون أن تصنع له حكايةً تحمي وحدةَ دلالته، وهناك كتّابٌ كُثرٌ يبالغون في إيراد مشاهد الجنس بشكل مجانيّ لتكون بالنسبة إليهم سبيلَهم إلى المتاجرة بجوع القارئ العاطفيّ وحَمْلِه على الافتتان بجُرأتهم. غير أنّ جرأتهم في تصريف الجنس في رواياتهم لا تمنع من القول إنهّ يتجلّى فيها "جنسًا مخصيًّا"، لا تعضده حكايةٌ، ولا تقوله لغةٌ واعيةٌ بفلسفته ومُجدِّدة فيها، وحريصة على تأكيد أنه ما لم يتحرّر الإنسان من جوعه الجنسيّ لن يقدر على تحرير فكره وبناء حضارته. ولعلّ في هذا ما يدعوني إلى القول إنّ البابليين والإغريق واليونان والعرب القدامى كانوا أكثر وعيًا بالجنس وإلمامًا بشعائره من كُتابنا المعاصرين.

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها