الثلاثاء 2016/04/19

آخر تحديث: 11:59 (بيروت)

لانزمان مكيافيللي السينما جمعت حياته بين الفردوس والجحيم

الثلاثاء 2016/04/19
increase حجم الخط decrease
لا يخفي كلود لانزمان أنّه لم يعرف شيئاً عن المحرقة النازية عندما طُلب إليه في بداية السبعينات إتمام فيلم عنها. "كانت معرفتي عنها محصورة بما يعلمه الجميع: ستة ملايين يهودي". هكذا، يقول في مطلع الفيلم الوثائقي "أشباح الشوا" للبريطاني آدم بنزين (رُشّح لجائزة "أوسكار" أفضل وثائقي قصير هذه السنة)، الذي يتناول تجربة لانزمان خلال تصويره فيلم "شوا" (١٩٨٥). ورغم جهله حيثيات المحرقة، انكبّ لانزمان، المخرج الفرنسي اليهودي الذي ذاع صيته عالمياً، على رحلة الهلوسة التي كادت أن تقضي عليه. تفاصيل كثيرة يستعيدها لانزمان في فيلم "بنزين"، وهو جالس قبالة كاميرا المخرج، بصوته العميق ومحياه الذي تختزل علامات الشقاء والعمر المديد. من جملة ما نعلمه، أنه قبل إعطاء الموافقة للجهة التي طلبت إليه انجاز "شوا"، جال لانزمان البالغ من العمر ٩١ عاماً اليوم، باريس كلها سيراً، وهو يفكّر في العرض. وفي الصباح الباكر اتصّل بالشخص المعني ليخبره عن استعداده للمضي في المشروع. 

استغرق تصوير "شوا" ١٢ عاماً (١٩٧٣- ١٩٨٥) عاش خلالها لانزمان أنواع المشاعر كلها: الخوف، الشكّ، الخيبة، إلخ. "كذّبتُ على الجميع"، يردّد مراراً عند الحديث عن ظروف التصوير. مكيافيللي السينما، جال العالم لإجراء مقابلات والإتيان بشهادات الناجين من معسكرات الاعتقال التي وضعتها ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية لتصفية اليهود وأصناف بشرية أخرى اعتبرتهم غير صالحين للعيش، كالغجر والمثليين والمختلين عقلياً والمصابين بالإعاقة الجسدية. شعر لانزمان مراراً خلال التقاط المَشاهد إنّه ينتحر، لكنّ صدى العذابات التي عاشها اليهود تحوّلت أمام كاميراه الى شهادات أليمة صوتاً وصورة. من استقصاء يستغرق تسع ساعات، تحوّل "شوا" مع الزمن الى تحفة سينمائية اختارها ٦٨ ناقداً في استفتاء حديث أجرته مجلة "سايت أند ساوند"، ثاني أهم وثائقي تم إنجازه في تاريخ السينما بعد "رجل بكاميرا" لدزيغا فرتوف.

قبل أن ينغمس في "شوا" (الكلمة تعني كارثة باللغة العبرية)، عاش لانزمان حياته على أوسع نطاق وراكم التجارب المختلفة عن بعضها البعض. إنضم إلى المقاومة الفرنسية وقاتل النازية؛ صادق جان بول سارتر الذي أخذه تحت جناحه؛ حتى قِيل إنّه كان صلة وصل غير رسمية بين ماو وديغول. كان من المناهضين لحرب الجزائر وفيتنام يوم التحق بصفوف اليسار. عمل لانزمان صحافياً، غازل "الموجة الجديدة" وأجرى مقابلات شهيرة لمجلة "ايل" مع باردو وبلموندو ودونوف. ويقول إنّه ساعدهم في إحداث نقلة نوعية في حياتهم المهنية. كان يعرف كيف يتودّد إلى الشخصيات الرفيعة ويسرق قلوبها. قيل عنه إنّه رجل أفعال لا أقوال، مقاتل شجاع، ومتزلج لا يعرف الخوف، ومتسلق جبال جريء، وطيار بالفطرة، ومبدع في الصحافة "الرؤيوية"، وبطل رياضي. مع سارتر ودو بوفوار، شكلوا مثلثاً غرامياً على الطريقة الفرنسية، لُقّب المثلث بـ"العائلة". كان يكبر دو بوفوار بـ١٧ عاماً، أحبّها بمباركة سارتر."منذ البداية، أحببتُ غشاوة صوتها وعينيها الزرقاوين، والصفاء الذي في وجهها، خصوصاً عند أنفها"، كتب لانزمان في مذكراته. في "قوة الأشياء"، كتبت عنه دو بوفوار: "بسببه، ألوف الأشياء عادت اليّ: الفرح، الدهشة، القلق، وطزاجة العالم".

كان لانزمان ملحداً منذ الصغر، ويهودياً غير تقليدي. الفضل في ذلك لسارتر. فكتابه "تأملات في السؤال اليهودي" جعله "يتلقى ابتسامة الفرنسيين برحابة صدر، لا بل يردّ عليها بابتسامة أخرى"، كما أخبرني عندما التقيته في مهرجان كانّ. يقول: "عشتُ مأساة المعاداة للسامية حين كنتُ طفلاً. عرفتُ خجل أن يكون المرء يهودياً في تلك الحقبة. لم أكن أعرفُ شيئاً عن الثقافة والتقاليد اليهودية. لكنّ التفسير الذي جاء به سارتر عن المعاداة للسامية حرّرني إلى الأبد، علماً أنّني كنتُ مقاوماً وحاربتُ الألمان، لكنّ المعاداة للسامية لم تختفِ مع زوال الاحتلال النازي لفرنسا. سارتر طرح نظرية أنّ المعاداة للسامية هي التي تمنح اليهودي شرعية. كانت هذه فكرة مبهمة إلى حدّ ما".

يروي لانزمان في "أشباح الشوا" الذي اكتشفناه في مهرجان تسالونيك للفيلم الوثائقي، أنّه بحث عن رجل اسمه إبرهام بومبا كان يحلق رؤوس المعتقلات في أوشفيتز، وهذا البحث حمله إلى برونكس. كان يمتلك عنواناً تقريبياً عن مكان إقامته لم يجده فيه، فطرق باب مئات البيوت بلا جدوى، ثم زار الحلاقين في نيويورك واحداً واحداً، قبل أن يلتقي صدفة بسيدة مسنّة تقصّ شعرها، أطلّت برأسها من تحت آلة تجفيف الشعر وصرخت: "أعرفه!". عندما صوّر شهادة الحلاق، بدأ الأخير يروي ببرودة كأنه يسرد حكاية شخص آخر، ثم بعد إلحاح لانزمان المتواصل والعنيد، استسلم وانهار. من أجل تصوير أحد الضباط النازيين خلسة، رافقت لانزمان فتاة مساعدة وضعت حقيبتها، وفي داخلها كاميرا، على الكنبة المقابلة لكنبة الجلاد، والصور الملتقطة كان يتم تصديرها مباشرة إلى سيارة فان فيها تقنيان. بيد أنّ الخدعة كُشفت خلال اللقاء، فانتهى كلّ شيء بالعراك والاقتتال والدم، ليُنقل لانزمان إلى المستشفى حيث نام شهراً. أثناء المونتاج، كان يركّب ثم يفككّ كلما شعر أنّ في الأمر سهولة. هذا المُتطلب إلى أقصى حدّ، تداخل الطموح القاتل لديه بالواقع المعيوش، فذهب إلى أقاصي الجنون وفقدان الوعي والبارانويا، فلم يعد الفيلم عن الشوا بل الشوا نفسه.

يقول عن الفيلم إنّه غيّر حياته وزعزع كيانه من الداخل، فتطلب سنوات كي يشفى منه ويعيد بناء نفسه. كان ما شهده خلال ١٢ عاماً من مغامرة لا نهاية لها، أكبر من قدرة أيّ انسان على التحمّل. "شوا"، فيلمٌ صنعه بقدر ما هو صنع الفيلم. يروي أيضاً إنّه قبل البدء بالمونتاج، طُلب منه فيلم من ساعتين ينتهي من إنجازه في غضون سنتين. كانت في جعبة لانزمان ٢٠٠ ساعة من المادة المصوّرة، وشعر أنّه أمام جبل يستحيل تسلّقه. فذهب إلى البحر، وابتعد كثيراً من الشاطئ، إلى أن شعر بوجع في خاصرته. يبدو الأمر أشبه بانتحار وهو يرويه. لكنّ أحد السباحين أعاده إلى الشاطئ على ظهره بعدما سأله عن اسمه. في نهاية "أشباح الشوا"، يقول لانزمان بصوت لم يبقَ منه إلا صداه، إنّه غير متفائل من حال الدنيا ولا من وضعه، فهو ذاهب إلى الموت الوشيك ولا شكّ أنّ البشر جميعهم سيحذون حذوه.

في لقائي معه، أخبرني أنّ الدافع خلف إنجازه بعض أفلامه هو عدم تكلّمه العبرية. "مثلما لو كنتُ من الناجين من المحارق، لما كنتُ أنجزتُ شوا. فكانت لي حاجة إلى أن أكون في داخل القضية وخارجها في آن. كانت لي الشجاعة والجنون لأخذ ما أريده من وقت. كذبتُ على الجميع، وعلى ذاتي أيضاً، لحاجتي إلى آمال كبيرة لإكمال الطريق. لإتمام عمل كـ"شوا"، كان على الزمن أن يعلق. لجأتُ إلى خدع كثيرة لأجله، على مدار السنوات الـ١٢ التي استغرقت عملية التصوير: دخلتُ الأراضي الألمانية بجواز مزوّر وكاميرا خفية بغية لقاء نازيين سابقين ومحاورتهم".

في البداية، الحكومة برئاسة مناحم بيغن شاءت تمويل الفيلم على شرط ألا يستغرق اتمامه أكثر من ١٨ شهراً، الأمر الذي وافق عليه لانزمان وهو عارف مسبقاً أنه لن ينجح في تلك المهمة المستحيلة. في النتيجة، صوّر أكثر من ٢٠٠ ساعة من المقابلات والشهادات، وزار ستّة بلدان من أجل ذلك، أما المونتاج فأمضى عليه من الوقت نحو خمس سنوات. غنيّ عن القول إنه لم يستمع لأحد، فتح جبهة قتال حقيقية حتى مع الذين كلفوه بالمهمة، فولاؤه إلى السينما كان قبل أي شيء آخر. لم يرد أن يضع في "شوا" جثة واحدة، حتى أن غودار قال إن لانزمان لا يرينا أي شيء. ليس لأن النازيين كانوا أخفوا آثار الجريمة وأزالوا من سجلاتهم أي دليل على غرف الغاز في بركناو، إنما لأن لانزمان لم يكن يؤمن بالصورة إلا من خلال الكلمة. لم يهتم البتة بصور الأرشيف، لا بل قال إنه لو اكتشف لقطات ليهود يختنقون في غرف الغاز لأتلفها.

وكان لانزمان، عام ١٩٥٥، كتب مقالاً عنوانه "كاهن من أوروف"، وهو عبارة عن تحقيق معمق عن جريمة قتل ارتكبها كاهن، وفيه إدانة للكنيسة. هذا المقال جعله يتعلم أصول التحقيق فوظفها في "شوا" الذي لم يعتبره يوماً سوى تحقيق جنائي. في النهاية، بعد شعورها بالمماطلة، سحبت وزارة الخارجية الإسرائيلية يدها من الفيلم، حتى قبل البدء بالتصوير، فالمصالح بينها وبين المخرج وإن التقت في البداية عادت وتضاربت. بالنسبة إلى لانزمان، المشروع كان خلاصة طموحاته في عالم الصحافة والسينما، خلافاً للإسرائيليين الذين وجدوا في موضوع المحرقة أمضى الأسلحة في ترسانتهم الايديولوجية، علماً أنهم لم يمنحوها أي اهتمام قبل حرب ٦٧، لكن محاكمة أدولف ايخمان بعدما تم احضاره من الأرجنتين جعلتهم يعون أهمية توظيف المحرقة. صحيح ان لانزمان كان واقعياً في طرحه، بيد أنه طعّمه بسردية اليهودي المضطهد من غير اليهود، أي أنه كائن ضعيف سيتعرض لمهانات متكررة إن لم يجد حلاً.

يشدد لانزمان في فيلم بنزين أنّ "شوا" لم يكن فيلماً عن الذين أُنقذوا من المحرقة، بل عن الأموات، كردّ ضمني على ما قيل في شأن "ابن شاوول" للازلو نمش في اعتباره أول فيلم عمّن قضوا في المحرقة، لا عن الناجين. "لم يكن مفترضاً على أحد من هؤلاء أن يبقى حياً"، يعلق لانزمان. "وإذا بقوا أحياء، فذلك جراء معجزة. هؤلاء أبطالٌ وقدّيسون وشهداء. حين يتكلمون في فيلمي ينسون ذاتهم، ويتبدى ذلك من خلال استخدامهم كلمة نحن بدلاً من أنا. هؤلاء هم الناطقون باسم الموتى. كان الأميركيون يريدون معرفة ما هي رسالة الفيلم. كانوا يريدون مني أن أرفع شعارات مثل "لن يتكرر"، أو شيء من هذا القبيل. طلبوا إليّ أن يتضمن الفيلم ردّاً على سؤال أعتبره غير أخلاقي: لماذا حصل ذلك مع اليهود؟. بالنسبة إليّ، مهما تكن الأسباب، فهي لا تكفي لارتكاب إبادة وقتل ملايين الأطفال. لم أنجز شوا للردّ على أسئلة بعض المشككين، بل رغبة مني في الإحاطة بالحوادث التي جرت. توجّه هذا الفيلم إليّ في المقام الأول. كنت مقتنعاً بأنّ ثلاثة آلاف مُشاهد سيرونه حول العالم كأعلى تقدير، وهذا ما كان يلبّي رغباتي. وإذا بمئات الملايين يشاهدونه بين دور العرض والشاشة الصغيرة".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها