الخميس 2016/03/03

آخر تحديث: 12:21 (بيروت)

خيوط خفيّة في عمارة القاهرة

الخميس 2016/03/03
increase حجم الخط decrease

القِدَم والإهمال من طبيعة العمران المصري وأبجديته، مهما تفاوتت وتباينت أزمنته وتنوعت وظائفه ومشاهده. وعلى الرغم من سرعة دبيب الصخب والفوضى اللذين يشوبان بضراوة دورة الحياة العامة ويلابسانها بقوة وعنف، فإن الزمن أو الوقت لا يجري إلا ثقيلاً ومتباطئاً ودهرياً على الأشياء والأماكن والبشر في القاهرة وسواها من المدن المصرية.

كأنما الزمن يلامس الثبات في جريانه البطيء والثقيل في مصر. وهو يلبث ويقيم في صميم المادة، فتبتلعه وتلاشيه ويمكث فيها ويتخمّر. هكذا تصير الأشياء قديمة ومهملة، ويتجمّد الزمن فيها، فتظلّ على حالها من دون أن يقوى الزمن على تحويلها وتغييرها: قصورٌ كثيرة في حيّ الزمالك القاهري الراقي، مضى زهاء قرن على هجرانها وإهمالها، فعَتِقَتْ وكساها غبار الزمن، لكنها صمدت ولم تتداعَ. حتى أنها تبدو في عمرٍ واحدٍ مع الأشجار الباسقة، المعمّرة والحية، والتي غُرست أو نبتت قبل تشييد القصور بسنين كثيرة على الأرجح. ثم أن هذه القصور والأشجار المغبَّرة التي تظللها لا تبدو قط أنها أقدم زمناً من البنايات العالية الكالخة التي شُيدت حولها بعد عقود وأجيال، وتسكنها فئات من النخب المصرية القاهرية.

بنايات وسط البلد القاهري المشيدة بجمالية معمارية متميزة في الزمن الكولونيالي المصري، وحيث يدبُّ اليوم الصخب الفوضوي الأقوى للحياة المدينية في القاهرة، لا تبدو بدورها خارج هذه الظاهرة العمرانية المصرية: القدم والإهمال والغبار وغياب الألوان. وهذه توحّد العمران في مصر وتردم تفاوت أزمنته، وتجعل القصور والبنايات والمنشآت والجسور والشجر والبشر في عمر واحد.

حتى البناية الفخمة التي وضع تصميمها أحد كبار المهندسين المصريين في مطلع الخمسينات، وشُيدت على ضفة النيل في الزمالك، وأقام محمد عبد الوهاب في شقة منها حتى رحيله، لا تشذُّ عن هذه القاعدة. وهذه حال الأبراج الضخمة العالية ذات الواجهات الحجرية التي شيدها على ضفة النيل آل ساويرس، على مثال ناطحات السحاب الأميركية في مانهاتن وشيكاغو. وذلك لتكون أبراجاً للأعمال المحدثة ورمزاً للانفتاح الاقتصادي في مصر. لكن لتظل بواجهاتها الحجرية المضاءة طوال الليل قديمة وجديدة في وقت واحد، ومثالاً لقدم الجديد المعاصر وثبات الزمن في القاهرة.

وحدة أزمنة العمران وتجانسه في القِدم والإهمال ينسحبان أيضاً على أنماط عيش المصريين ومشاهد حياتهم اليومية في الحيز العام. كأنما هنالك خيوط خفية تجمع تلك الأنماط والمشاهد، توحدها وتجانس بينها، مهما تنوعت الفئات والطبقات الاجتماعية، وتباينت مراتبها واتسعت المسافات بينها.

هذه الخيوط حاضرة حتى في نسيج الدوائر الاجتماعية والمكانية الخاصة للفئات المصرية المدينية الوسطى المحدثة أو العصرية. على الرغم من سعي هذه الفئات في التمايز وحيازته في حياتها المادية والمعنوية، وفي أعمالها وتحصيل معاشها وصولاً الى ملبسها ومأكلها وسلوكها الجسماني، فإن شيئاً من القدم يُداخِل حداثتها وعصريتها. وهو قِدَمٌ قد يكون سبب حضوره في مشاهد حياتها قوة القدم المتجانس الطاغي على العمران وأنماط عيش المصريين.

لذا، لا يبدو أن هذه الفئات المدينية الحديثة أو العصرية في مصر، تبذل جهداً بالغاً ومستميتاً - على طريقة نظيرتها اللبنانية مثلاً - لحيازة مظاهر الرخاء والتمايز الفاقعة، والتباهي والتشاوف بها على المثال اللبناني. كأن مدار الجهد الذي تبذله هذه الفئات المصرية لتكون حديثة أو عصرية ومتمايزة لا ينصبّ على الافتتان بالمظاهر وعبادتها، قدر صرفه (الجهد) في تنمية قدرات واهتمامات معنوية وثقافية شخصية وعلى صلة بالشؤون العامة المحلية والوطنية.

هذه حال مجموعات المدونين والناشطين المصريين في المجتمع المدني، اولئك الذين شكَّل نشاطهم النواة التي مهدت لثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 في ميدان التحرير.

في وجه من وجوهها قد تشبه تلك المجموعات المصرية، المجموعات الطلابية العونية والقواتية ومن اليسار الديمقراطي في الجامعات اللبنانية، والتي مهدّت لثورة الأرز في 2005، وصنعت نواتها الأولى من ساحة الشهداء غداة اغتيال رفيق الحريري.

لكن على الرغم مما تعرضت له المجموعات المصرية الشابة الناشطة وأصابها طوال 5 سنوات من تشتت وتشتيت وحصار وخنق منهجيين ومطاردات أمنية تصل أحياناً إلى الاعتقال والسجن والتعذيب والاختفاء القسري والاغتيال، فإنها تنهض اليوم من تشرذمها، وتستأنف نشاطها المدني والحقوقي والإعلامي المحموم وخصوصاً ضد العنف الوحشي لجهاز الشرطة. وهذا على الرغم من ضيق هذه الفئة وقلّة عددها، قياساً إلى ضخامة عدد السكان في مصر، وتسارع تزايدهم الهائل، وتعب الطبقات الشعبية الواسعة المنهمكة في مطاردة لقمة عيشها وإذعانها لطغيان النظام العسكري الجديد.

هل من دور ما لقوة القدم المتجانس والموحد، الطاغي على أزمنة العمران وأنماط العيش في عدم انقياد الفئات الشابة من أبناء الطبقة الوسطى المصرية إلى حيازة التمايز المظهري الخالص، لتبدو حديثة ومعاصرة؟

وهل القِدم والتجانس الدهريان في مصر، ما يدفع هذه الفئات إلى جعل تمايزها المحدث او المعاصر باباً لطلب الحرية، ولتنمية قدرات واهتمامات شخصية مستقلة ومتصلة بالشؤون العامة الوطنية؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها