الخميس 2016/03/10

آخر تحديث: 10:48 (بيروت)

الحنين إلى الستينات: أين غنائية الشباب العربية؟

الخميس 2016/03/10
الحنين إلى الستينات: أين غنائية الشباب العربية؟
منذ الثمانينات اضطرام الحنين لحداثة الستينات والسبعينات العربية في مخيلة وجوارح وتهاويم فئات(غيتي)
increase حجم الخط decrease

منذ متى ولماذا بدأت تتحوّل الستينات من القرن العشرين، والسبعينات بعدها بدرجة أقلّ، أيقونة وفردوساً مفقوداً أو ضائعاً ومنجماً للحنين في الأدبيات والمذكرات والسّير الثقافية والاجتماعية والسياسية العربية؟

لكن ما يبعث الحنين إلى ذلك الزمن الفردوسي الستيني والسبعيني والخمسيني قبله، على نطاق جماهيري أوسع بكثير من نطاق الدوائر الأدبية والثقافية السياسية، إنما هو الحنين إلى الأغاني وأفلام السينما ونجومها ونجماتها في تلك العقود الثلاثة. وللصور الفوتوغرافية التي تصوّر مشاهد العمران وأنماط العيش والأزياء، وخصوصاً النسائية، في الخمسينات والستينات والسبعينات، قسطٌ وافرٌ من الحنين إلى ذلك الزمن الفردوسي والأيقوني الضائع.

أما كيف ولماذا ومتى حدث ذلك، فمسائل يطول البحث فيها، ويمكن في هذه العجالة تقصّي بعض عناوينها.

الأرجح أن ذلك حدث في مطالع الثمانينات التي أشعلت ذلك الحنين إلى فردوس الستينات المفقود. وهو حنينٌ ولدّته لحظة يقظة مريرة مفترضة أصابت في الثمانينات فئاتاً واسعة من جيلين اثنين شبّا ما بين الخمسينات والستينات والنصف الأول من السبعينات. والفئات المقصودة من ذينك الجيلين، هي تلك التي ضيّقت عوامل كثيرة المساحة الاجتماعية والثقافية والوجدانية بينها، فجعلتها (الفئات) أقرب الى أن تكون في عمر واحد ومن جيل واحد.

العوامل التي ضيّقت المساحة بين فئات من ذلك الجيل الشبابي الممتد، يتصدّرها: اتساع قاعدة التعليم الحديث أو المعاصر، والتمدين، والتثاقف، والحراك الاجتماعي والسياسي، وسفور النساء، والاختلاط بين الجنسين، ونشوء دوائر للعلانية العامة لذينك السفور والاختلاط، وللتواصل الاجتماعي والثقافي. وقد تكون الجامعات والمقاهي وصالات السينما والنشاطات السياسية الحزبية والحفلات الغنائية والأغاني الإذاعية والمسجلة على أشرطة كاسيت، وصولاً الى التلفزيون، في طليعة تلك الدوائر للعلانية العامة.

غني عن القول إن العوامل والدوائر المذكورة، هي وليدة حداثة الربع الثالث من القرن العشرين. وهي الحداثة التي وفّرت لفئات واسعة من ذلك الجيل الشبابي الممتد قيماً ومعانيَ اجتماعية وثقافية وسياسية مشتركة، صدرت عنها أحلام تلك الفئات وطموحاتها ونشاطاتها وأشكال تعبيرها. وكان الروائي ميلان كونديرا قد سمّى ما صدرت عنه تلك الأحلام والطموحات والنشاطات وأشكال التعبير تسمية شاملة: غنائية الشباب.

والحق أن هذه الغنائية تصيب البشر جميعاً وفي كل وقت وبلد وثقافة، في مرحلة عمرية تمتد بين المراهقة والشباب، لكن على أنحاء ومثالات مختلفة ومتفاوتة بين الأوقات والأجيال والبلدان والثقافات. لكن على الرغم من تفاوتها وتباينها، فإن غنائية الشباب الممتدة طوال الربع الثالث من القرن العشرين (1975-1950)، شملت شبان وشابات العالم كله تقريباً في تلك الحقبة. وهي الغنائية التي خصّها كونديرا بهجاء تهكمي أو سينيكي، لاذع ومرير، خصوصاً في روايتيه "كتاب الضحك والنسيان" و"الحياة في مكان آخر". هذا مع العلم أن التهكمية المتشائمة والعدمية المريرة، حاضرة دائماً وبقوة في صلب الفن الروائي لصاحب "خفة الكائن غير القابلة للاحتمال"، وتشمل أعماله الروائية كلها.

لكن أين غنائية الشباب العربية من ذلك التهكم الكونديري اللاذع؟

فغنائية الشباب العربية لم تتعرّض لا للنقد ولا للهجاء إلا نادراً في الأدبيات الثقافية والاجتماعية والسياسية. هذا على الرغم من تزويدها فئات واسعة من الأجيال العربية الشابة المتعلمة تعليماً محدثاً أو معاصراً في ربع القرن الثالث ذاك، بمثالات قوامها ومدادها صور هوامية زاهية عن نفسها وذاتها وعن العالم وحضورها وفعلها فيه. وقد اقتصرت فاعلية تلك المثالات على اشتقاق او ابتداع صور خطابية وشاعرية للحضور والفعل، ولا تستحضر الذات الفردية والجمعية الا بوصفها ذاتاً فنية وثقافوية أيقونية ثابتة ومغلقة. وهي في هذا ذاتٌ قائمة ومكتملة مسبقاً، خارج التجارب الحية المركبة والمتنازعة، والباعثة على التنازع. كما أنها لا تلامس العالم سوى ملامسة هوامية فقيرة، وتُفقِرُ العالم.

ذلك لأن الحداثة العربية بمثالاتها وصورها استمدت مادتها ونواتها من ركام متنافر، هجين ومبتسر ومستعار كبراقع وكلمات موميائية أو صنميّة، مصدرها الحداثة الغربية: عبادتها واستهلاكها على نحو التهاميّ، وكراهيتها وهجاؤها والصدام معها خطابياً، في وقت واحد. والحداثة العربية هذه هي التي سُمِّيت نهضوية وتقدمية وثورية وتحررية في ميادين الأدب والشعر والثقافة والاجتماع والسياسة. ويعود ركامها المتنافر إلى عالم ما قبل الحرب العالمية الأولى وبعده. وهي حداثة ظلت أقرب إلى وعي فصاميّ وهواميّ سعيد تشوبه آلام المخاض الدائم، الحزين والعصي على الولادة. وظل هذا المخاض يتناسل ويعاش طوال عقود من الاجهاضات والهزائم المصوَّرة على انها انتصارات متتالية.

وتلك هي العقود التي عاجلت الثمانينات انتصاراتها الموهومة بضربة قاضية، ووضعت خاتمة بائسة لذلك المخاض المديد الفاشل، الذي تكشّف عن الرحم العاقر للحداثة العربية النهضوية طوال ما يزيد عن قرن من السنين.

هذا ما حمل الباحث المصري في علم الاجتماع الثقافي والأدبي ناجي نجيب على توسيع المساحة الزمنية، الثقافية والأدبية والشعرية والفنية، للحداثة العربية. فإذا بها كلها في أبحاثه الفريدة، غنائيةُ شبابٍ متناسلة ومتدافعة منذ بدايات القرن العشرين وحتى أواسط سبعيناته، لتشمل أجيالاً ثقافية كثيرة. وهي أجيال اختصرها نجيب في جيل واحد سمّاه "جيل الحنين الحضاري" المصاب بـ"أحزان المواطن الصغير" في كتابين له بهذين العنوانين اللذين إذا أضفنا إليهما عنوان كتاب حازم صاغية "الهوى دون أهله"، تظهر الملامح الأساسية للحداثة العربية المجهضة طوال تاريخها.

من قلب الركام الاجتماعي والثقافي والسياسي لتلك الحداثة، خرج الإسلام السياسي ليثأر منها. أما الظلامية والجهادية الإسلاموية، فشكّلت وتشكّل الثأر الحداثوي الأعنف من حداثة الركام العربية.

ألهذا لم يخفت منذ الثمانينات اضطرام الحنين لحداثة الستينات والسبعينات العربية في مخيلة وجوارح وتهاويم فئات شبّت وسكرت بغنائية شبابها في ذينك العقدين؟ وهي فئات اكتهلت اليوم، لكن حنينها الى حداثة غنائية الشباب لم يكتهل، بل لا يزال راعفاً ومستعراً بقوة متزايدة، كرد سقيم على زحف الظلامية الإسلاموية المجاهدة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها