الجمعة 2015/08/21

آخر تحديث: 13:46 (بيروت)

هندسة المكان الزائل في المتخيل الروائي

الجمعة 2015/08/21
increase حجم الخط decrease
ما نميل إلى تأكيده هو أنّ الروايةَ فنُّ الإنصات للمكان وحُسْنُ إدارته، فالأزمنة والشخصيات – على حدّ ما يقول النقّاد- لا تُكوِّن روايةً إلاّ متى عَضَدَها حدثٌ مَّا، والحدث لا يتمّ إلاّ في مكان ماديّ أو مُتخيَّل. وعليه، فإنّنا لا نعني بالإنصات للمكان وحُسنِ إدارتِه توصيفَه ومَلْءَ كيانه بالأحداث وإجراءَها فيه بكثير من المفعولية، وإنما نعني بهما الوعيَ بكينونته داخل الحكاية؛ وهي كينونة تُخوّل للمكان أن يُعرِبَ عن فاعليته في توجيهِ حركة الشخصيات ومنحِ الأشياءِ فيه دلالاتٍ جديدةً. ولن يتمّ له ذلك إلا متى هيّأ له الروائيُّ أسبابَ أن يكون ذا لسانٍ فصيح، وعاطفة قويّة، وحواسّ متيقّظة، وجُرأة على رفض ما لا يستسيغه من أحوال الأحياء والأشياء فيه، فكم روايةً تعطّلت فيها حواسُّ أمكنتِها فظلّ حكيُها باردًا وهجينًا، وكم روايةً هاجت فيها أصواتُ المكان وأحلامُه فحرّكتْ مُهَجَ شخصياتِها وهيَّجَتْ دَلالاتِ حكايتِها!

ولئن اتخذت الروايةُ العربية الرومانسيّة الأمكنةَ الطبيعية إطارًا لمرويّاتها وأكثرت من التغنّي بأخلاقها ومناظرها الخلاّبة وتصوير تفاصيلها بحنين شعريّ باذخ فإنّ الرواية الواقعيّة - وما تلاها من أنماط روائية أخرى - قد أخلصت لمَنْشَئها المَدينيِّ، ونزعت إلى بناء مغامرات أبطالها السردية داخل بيوت وساحات وشوارع وأحياء شعبيّة أو عصريّة. ولا يذهبنّ الظنُّ بأحدٍ إلى كون حديثنا عن مدينة الرواية محكومٌ بنزعة إحيائية للمكان، فالمدينة فضاء حيٌّ بطبعه في كل حكاية مهما كان نوعها واقعية أم أسطورية أم متخيَّلة، وهي إذْ تحضر في الرواية نلفيها تتخفّف من إهاباتها الواقعية، بل قُلْ تحملها معها وتلوذ بالسرد سبيلا لتحكي حكايتَها وحكايةَ مَن فيها.

ولا يَخفى أنّ هندسةَ المكان في الرواية العربية الحديثة تتحكّم في مجرى حكايتها، بل هي من أحداثها الرَحِمُ الذي تتخلّق فيه وتنمو، ذلك أن ملامح الأنهج والأسواق والأزقّة وعنابر السجون ومشرفيات البيوت وغيرها من الأمكنة هي التي تحدّد طبيعة الأحداث التي تجري فيها. من ذلك أنّ ضابط الأمن يطلب من بطل رواية "تلك الرائحة" لصنع الله إبراهيم أن يمدّه بعنوانه ليعرف مكانه ومن ثمّة يتسنّى للسلطة مراقبة تحرّكاته، حيث نقرأ: "قال الضابط: ما هو عنوانك؟! قلت: ليس لي عنوان، وتطلَّع إليّ بدهشة إلى أين تذهب وتقيم؟! قلت: لا أعرف ليس لي أحدٌ، كنتُ أعيش بمفردي، قال لابد أن نعرف مكانك لنذهب إليك كل ليلة". كما أن ضيق عنبر السجن هو ما أجبر أجساد السجناء على الالتحام وحرّضها على الممنوع وهيّأ الظرف لأحدهم لكي يغتصب صبيّا سجينا على حدّ ما يقول الراوي: "وجذب صاحبُ البطانية البطانيةَ فوقه وبسطها بيده على صبيٍّ ممتلئٍ ينام إلى جواره، ورأيتُ وجه الصبيّ قبل أن تغطّيه البطانية، كانت له بشرةٌ خمرية وشفتان ممتلئتان، وكان غارقا في النوم وقد ثنى ركبتيْه، وأحاطه الرجلُ بساعده أسفل البطانية، وجعل يتحرك على جسد الصبي حتى التصق به، وراحت ذراعُه تحت البطانية وهي تتحرّك على جسد الصبيّ تنزع بنطالونَه، والتصقت ساقا الرّجلِ بظهر الصبيّ".

قاهرة نجيب محفوظ
وتحضر القاهرة، وخاصة منها حيّ الجمالية، في روايات نجيب محفوظ حضورا وارف الدّلالة، إذ تنهض الأزقّة والقصور الفاطمية والمقاهي الشعبية وعمارات السكن فواعلَ في نظم الحكاياتِ والتحكّم في جريانها، ومن صُوَرِ ذلك أنّ انعدامَ إنارة سُلّم البناية التي يسكنها عبد المنعم شوكت في رواية "السُكّرية" هو ما شجّع جارتَه الشابّة على التسلّل من بيتها وملاقاته فوق السطح دون خوف من عيون أهلها واستدراجه إلى تقبيلها على كثرة زهده وتقواه، وفي هذا الشأن نقرأ: "وعَبَرَ حَوْشَ البيت في ظلام دامس، ثم اتجه إلى السُلَّم، وفي تلك اللحظة فُتِحَ بابُ الدّور الأول، وعلى الضوء المنبعث من داخل الشقة رأى شبحًا يتسلّل إلى الخارج ثم أغلق البابَ وراءه وسبقه إلى السُلّم. وخفق قلبُه، وجرى دمُه حارًّا كحشرة هيَّجها القيظ. رآها في الظلام تنتظر عند أوّل بسطة وتتطلّع نحوه، فتطلّع نحوها".

وقد تحتاج الرواية إلى استدعاء أمكنةً تاريخية غائرٌ اسمُها في خزائن الأسطورة لتمنح أحداثها بُعدًا عجائبيا، وهو أمرٌ انصبّ عليه جُهدُ بعضِ روايات الليبي إبراهيم الكوني، حيث وجدنا فيها أمكنةً أسطوريةً مثل مدينة "أطلانتيدا" في رواية "البئر". وقد لاذ الكوني بالصحراء وواحاتها فضاءً لتخليق مروياته، لأنه يرى أنّ الصحراء هي التي تروي له حكاياتها، وهي التي تعلّمه أن يُنصتَ لمفرداتها: "لم يَرْوِ لي أحدٌ شيئا غير الصحراء، الصحراء هي الجدة التي ربّتني، وهي التي روت لي، وهي التي دفنت في قلبي سرَّها. ولهذا عندما أتحدثُ عن الصحراء أشعرُ بأنني مسكون بالصحراء، يعني لستُ أنا من يسكن الصحراءَ ولكن الصحراءَ هي التي تسكنني، لأن في الصحراء فقط يتجسد مبدأُ وحدة الكائنات، في الصحراء تعلمتُ أن تكون الشجرة، أصغر شجرة أو أصغر نبتة، قرينًا لي. في الصحراء أيضا تعلمتُ تحريمَ أن تَنْتَزعَ عودا أخضرَ، في الصحراء تعلّمتُ أن لا أفقسَ بيضةَ طيرٍ".


باب الشمس
وربّما احتاجت الرواية إلى تصنيع مكانها عبر قناة التخييل، ومتى اكتملت ملامحُه فيها، تسرّب منها وخرج إلى الأرض، ونهض من جديد فاعلاً في أحداث واقع الناس المعيش. وليس أدلّ على ذلك ممّا حدث مع رواية "باب الشمس" للكاتب إلياس خوري، ذلك أنّ هذه الرواية صنعت مكانها، وأدارت فيه أحداثها، ثم وهي تنفتح به على أسباب واقعها، منحته حياةً حقيقية، فإذا بـ"باب الشمس" يخرج من مُتًخيَّل الرواية إلى الواقع، وإذا بشباب فلسطين يقيمون مخيًّما للعودة باسم "باب الشمس" ويخوضون صراعا من أجل بقائه مع قوات الاحتلال الصهيوني، ما جعل الكاتب إلياس خوري يقول: "تابعت الحدث في باب الشمس بصفتي قارئا أولا، كنت أقرأ عمل هؤلاء النساء والرجال الذين هم أحفاد بطل روايتي يونس وأبناء خليل، راوي الرواية"، ويوجّه رسالة إلى هؤلاء الشباب قائلا لهم فيها: "هذه هي فلسطين التي حلم بها يونس في رواية "باب الشمس". كان ليونس حلم من كلمات، فصارت الكلمات جروحا تنزف بها الأرض، وصرتم أنتم يا أهالي باب الشمس كلمات تكتب الحلم بالحرية، وتعيد فلسطين إلى فلسطين. أنا معكم. أراكم وأرى كيف صار الحلم على أيديكم حقيقة منغرسة في الأرض. على هذه الأرض ما يستحق الحياة، كما كتب محمود درويش، لأنكم عندما بنيتم قريتكم الرائعة أعدتم المعنى إلى المعنى، وصرتم أبناء هذه الأرض وأسيادها".

* هنا حلقة جديدة من ملف "المدن الزائلة"، الذي ينشر تباعاً في "المدن".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها