الجمعة 2014/05/16

آخر تحديث: 01:53 (بيروت)

زيارتنا ليست تطبيعاً!

الجمعة 2014/05/16
زيارتنا ليست تطبيعاً!
غرافيتي بانكسي على جدار الفصل العنصري في فلسطين المحتلة
increase حجم الخط decrease
 "تطبيع".. "تعبنا من هاي الكلمة.. هنا فلسطين .. شعب معزول ومقهور.. شعب بيحتاج مساندة.. إحنا الفلسطينيين بنمشي في شوارعنا ما بنسمع إلا لهجتنا وما بنشوف إلا الوجوه نفسها.. عدوتنا إسرائيل سكّرت علينا الأبواب، واخوانّا العرب وضعوا الأقفال بحجة التطبيع".. بالعامية الفلسطينية أبدأ، وبالعامية الأكثر وضوحاً أقول "في فلسطين شعب متعطش لزيارة الفنان والأديب والصحافي والمثقف العربي، ليعيش يومياتنا: أفراحنا وأحزاننا.. هون في شعب مسجون، والمسجون بحاجة لزيارة من أخوه أو صديقه أو أي إنسان بيشعر بمعاناته".

ما أوجع قلبي كفلسطينية هو ذلك "البعبع" المسمّى بالتطبيع، والذي اكتشفت أنه يعشّش في قلوب وعقول الكثير من المبدعين العرب الذين التقيتهم أخيراً في أبوظبي، خلال مشاركتي كصحافية في حفلة إعلان نتائج الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر). الكثير منهم متشوّق حدّ الهوس لزيارة فلسطين... يتحدّثون عنها بحبّ وشوق، ولا يعرفون عنها الكثير... دعوتهم لزيارتنا، إلا ان خشيتهم من الهجوم المؤكد الذي سيشنه عليهم أبناء جلدتهم ناهيك عن الأجهزة الرسمية، حال دون موافقتهم على الدعوة وكأنهم يقولون سرّاً أو علناً "يا ريت".

كان من بين من قابلتهم في أبوظبي الروائي المغربي يوسف فاضل، والذي "بطح البعبع"، وحلّ ضيفاً على معرض فلسطين الدولي للكتاب في رام الله.. في أحد الفنادق الفلسطينية التقيته قبل أقل من شهر على لقائنا الثاني.. قال لي في رام الله، قبل أن يحضنني في أبوظبي، وكأنه يضمّ فلسطين كلها إلى قلبه: كل ما سمعته وقرأته عن فلسطين ومدنها وواقعها اليومي وطبيعة الاحتلال الجاثم على صدور الفلسطينين انقلب رأساً على عقب عند رؤيتي الأمور على أرض الواقع، عشت مع الفلسطينيين يومياتهم.. رأيت بأمّ عيني كيف أن المستوطنات ابتلعت الأرض الفلسطينية.. لا أحد يستطيع تكوين صورة حقيقة عن الواقع الفلسطيني إلا مَن دخل الأراضي الفلسطينية، وتنقّل بين مدنها.

وقبل فاضل، كانت هناك زيارة لصاحب البوكر في الدورة السابقة، الروائي الكويتي سعود السنعوسي، إلى رام الله ومدن فلسطينية أخرى، وكان له موعد مع حبّ الفلسطينيين، في حضرة رمز فلسطين الثقافي محمود درويش، وبالتحديد في قاعة الجليل بمتحف درويش في رام الله.. السنعوسي عبّر عن مخاوفه أولاً من الزيارة بصراحة، قبل أن يؤكد بصراحة رغبته بتكرار الزيارة.

السنعوسي الذي غلبته دموعه كثيراً، حلّ ضيفاً على منازل فلسطينيين لم يكن يعرفهم، وكل ما كان يربطهم به هو إعجابهم بـ"ساق البامبو".. تجوّل في نابلس، وأكل فيها "الكنافة" برفقتي، كما أذهله واقع الأمر في الخليل، التي يعيش فيها الفلسطيني في منزل يعتلي سقفه وربما طابقه السفلي أيضاً، مستوطنون يهود، سطوا عليه بالقوة أو بالتحايل، وكم كان حزيناً لعدم تمكّنه من زيارة القدس بسبب منع الاحتلال له تحقيق حلمه بالصلاة في الأقصى .. السنعوسي عبّر لي عن مشاعر جياشة تجاه فلسطين وأهلها، ولا يزال.

قالها السنعوسي: "في البدء كنت قلقاً من هذه الزيارة.. الأمر جديد ومغاير، وهناك مواقف صعبة سأواجهها عند عودتي الى بلدي الكويت.. خرجت بعض الأصوات التي تتحدّث عن تطبيع وخيانة وما إلى ذلك، لكني بقيت مصرّاً على القدوم إلى فلسطين، ولم أرغب في أن يفسد هذه الزيارة أحد".

واعترف السنعوسي: "قبل الزيارة هاتفت الروائي الجزائري الكبير واسيني الأعرج، وكان زار فلسطين الصيف الماضي، فقال لي لو إنك تخشى الألسن فلا تذهب، أما إن كنت تؤمن بأنك ذاهب للقاء إخوانك السجناء بفعل الاحتلال في فلسطين فاذهب، وأخبرني بما طاوله من هجوم لم يمنعه من زيارة فلسطين.. عندها قرّرت أن أنتصر إلى أخي الفلسطيني، الذي لن يمنعني عدائي لسجّانه من زيارته".

وسبقت هذه الزيارة، زيارات كثيرة في السنوات الأخيرة لفنانين ومبدعين عرب من دول عدة، بينهم شاعر العامّية المصري هشام الجخ، وغيرهم الكثير.

وكان الجخ قد اتّهم بالتطبيع مع إسرائيل.. قال الجخ حينها بوضوح: "من رام الله أبعث بسلامي إلى كل مدن فلسطين، وبما أن البعض يقول إنني أزور إسرائيل، لو حد فيكم إسرائيلي يرفع إيدو"، وعندما لم يرفع أحد يده، قال الجخ: "يعني أنا في فلسطين.. أنحني أمام أهل فلسطين".. "يا جماعة لو فيكم حد ملوش جريح أو أسير في سجون إسرائيل يرفع إيدو". وعندما لم يرفع أحد يده أيضاً، تساءل: "أين هي إسرائيل إذاً؟"، ثم قال: "إذا كانت زيارتي لفلسطين ولشعبها الصامد تطبيعاً، إذن أنا مطبّع".

الحكايات في هذا الإطار تطول، فزيارة فلسطين لها وقعها الخاص على كل من يزورها، لكن ما لفتني أن البعض، ولأسباب متعددة يحقق حلمه بزيارة فلسطين "افتراضياً"، أي عبر "الأقمار الصناعية"، وبينهم ماجدة الرومي، التي حلّت ضيفة على مهرجان يبوس الفني في القدس، قبل سنوات، لكن عبر "الفيديو كونفرس"، وهو ما حصل في إحدى الحفلات مع الفنانين، السوري سميح شقير، واللبناني أحمد قعبور، اللذين وجّها رسائلهما التضامنية والفنية من بُعد، خشية ما يسمّى بالتطبيع.

لكن بعيداً من الزيارات الإلكترونية، لا تزال تحضرني مشاهد الوفد الإعلامي العُماني، وهو يشارك الفلسطينيين احتفالاتهم بإطلاق دفعة من الأسرى في سجون الاحتلال.. رقص أعضاء الوفد، وبكوا كما أهالي الأسرى.. كم أدهشتهم حكاياتنا، وشغفنا بالحياة، حين أخبرتهم عن قيام العديد من الأسرى بتهريب سوائل منوية لزوجاتهم، ما أثمر إنجاب أطفال أطلق عليهم مسمّى "سفراء الحرية"، وكأنهم يجسّدون ما قاله محمود درويش "ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً".

سأختم بالفصحى هذه المرة "قالها المرحوم فيصل الحسيني الملقب بحارس القدس: زيارة السجين لا تعني تطبيعاً مع السجّان".. أما أنا فأقول بل أؤكد "زيارتنا ليست تطبيعاً".
 
increase حجم الخط decrease