الأربعاء 2014/03/12

آخر تحديث: 23:48 (بيروت)

كيف تختفي.. فتسمَع.. فتُدرك

الأربعاء 2014/03/12
كيف تختفي.. فتسمَع.. فتُدرك
الكاتب المصري هيثم الورداني
increase حجم الخط decrease
 "كيف تختفي" لهيثم الورداني.. هذا الكتاب مخيف، خادع، يحاول التنصّل من حضوره عبر البساطة وادّعاء عدم الاكتراث. كغريب/متطفل لن تراه في البداية سوى شخص يخلخل هواءك، لن تعرف جوهره، لن تستطيع أن تدرك أن ذلك "الثقب الأسود الذي يمتصّ المحادثات"، هو إمكانية مهدورة لمعرفة أفضل بالحياة. حميمية تختفي في الشكل البارد والمعدني والشعبي لكتب "كيف تعمل الأشياء"، الشكل الذي يدّعي الإنسانية رغم أنه أشبه بماكينة نصائح، يعيد الورداني هنا العمل عليه بخفّة وبلا استعلاء. يخفي الإنسانية على هيئة ماكينة النصائح تلك، ليقدّم الكتاب الصديق، الملائم لمحن الاغتراب والشعور بالتطفل على العالم. كتاب خيطه: المواساة ووسيلته: الأصوات. هذا كتاب قد تقع في غرامه.

لا يملك المتطفّل والغريب سوى أذنيه لاكتشاف العالم، للتواصل معه من دون اقتحامه، من دون أن يكون طرفاً فعالاً، متلقي الأصوات السلبي، لا مصدرها.

الصوت هنا مفتاح كل شيء
، الاختفاء والظهور، الانضمام إلى جماعة والانشقاق عنها، كيف تستمتع إلى صوتك الداخلي، كيف تغير تردّدك.

على العكس، لا يقاوم الغريب/مراقب العالم/المتطفل على حضور الآخرين، الأصوات. "لا تستطيع أن تقاوم صوتاً"، بل يتركها لتكتسح حضوره، لتفني تلك الذات، أو لتكتشف حقيقتها: أن لا صوت لها، أنها ليست فقط محاصرة بأصوات لا تملك حيالها شيئاً، فبعد أن تتّبع تعليمات الكاتب للحصول على صوتك الداخلي، ستصل معه إلى نتيجة "أن صوتك الداخلي الذي تعلن من خلاله ذاتك عن نفسها، ينطق بأفكار ومشاعر وذكريات لا تخصّك، بل هي أصوات الآخرين وقد أصبحت جزءا منك، فاكتسب نبرتك الخاصة".

اكتساح الذات ونفيها تماماً، بمد اللعبة إلى آخرها، فبعد أن تتدرّب على الاختفاء عبر "الانغماس في سماع أصوات مكان عام، حتى يمرّ بك الجميع من دون أن يروك". ستتدرب على  معاودة الظهور، عليك أن تحرّك أنت الأصوات إلى منتهاها، الأصوات الواقع في أسرها: صوت التلفاز، المكنسة الكهربائية، الراديو، التكييف، صوت المنبه. بأقصى قدرتها على انتهاك سمعك واكتساح ذاتك تماماً ومحو أي فكرة أو انطباع قد يتولّد في ذهنك، وبعد أن تجلس هكذا نصف ساعة "اجلس وسط الصمت الذي خلفته الضوضاء"، وشيئاً فشيئاً، ستلاحظ أن ذاتك ستطفو على سطح وعيك، على شكل كتل متماسكة من لحظات منسية تماماً ككتل الجبن التي تظهر على سطح اللبن بعد خضّه. فالذات تبدأ في استعادة وحدتها استعادة الذات خادعة، مجرد ذكريات عابرة تمرّ كطيف، ستعرف في التمرين الذي يليها: أن لا صوت لك، أنك تستعيد العدم، أنت فقط تمنحه المنطق والنبرة، كما في تمرين. "كيف تجد معنى للأوقات الخاوية"، بينما أنت في الأساس قد فقدت القدرة على إنتاج أي معنى جديد لأي شيء.

book.png

عقب انتهاء التمارين، ثمة ملحق من نصوص صغيرة، تبدو كصدى لصوت تمارين "الاستماع إلى العالم"، ذلك خادع أيضاً، فالصدى هو الحصاد، ما حقّقه المتلصّص على العالم والغريب، من خلال أذنه، وسيلته الوحيدة للتواصل، للتطفّل، لاقتناص العالم في لقطات، تكثيف اللحظات الخاوية، لعلّها تنتج المعنى. تجلّ لصراع الأصوات لفرض الحضور، بقوة الطبقة الاجتماعية تارة، بقوة السلطة تارة أخرى، بقوة الشعور بالقهر، بالضياع في عالم لا يراك، بقوة الشعور بالوحدة، فعندما "تتراجع موجات الجلبة حاملة أسئلتها معها، لا تعود الطمأنينة، إنما يتبقّى الهلع وتتأكد المخاوف".

الأصوات التي تتحوّل إلى هواجس كاشفة، أو مجرّد ضجيج يشبه إشارات الاستغاثة. أذن الغريب/المتطفّل التي تستطيع أن تكون خريطة لصراع مستقبلي بين الأصوات أو "حرباً كونية تدكّ أركان الكوكب بأكمله".
 
increase حجم الخط decrease