الجمعة 2013/03/08

آخر تحديث: 23:56 (بيروت)

لماذا لا تغادر دمشق

الجمعة 2013/03/08
increase حجم الخط decrease
 لماذا لا تغادر دمشق؟ ما الذي تفعله في البلد؟ لم يتبق دور لكم أنتم "السلميون"، علماً أن الأخيرة باتت تقال بسخرية مرّة وحقيرة من نفس من قالها سابقاً بفخر، مستغرباً من قدرة الشعب السوري على التظاهر في دولة مسورة بالعنف و منتجة له!
لماذا لا تسافر؟
سؤال يرسله إلي يومياً أصدقائي في الشتات، ويوجهه لي أهلي ومحيطي الذي ينتظر فرصة الهروب من هذا الوضع الذي يختلف السوريون على تسميته: الجحيم، الثورة، الانتفاضة، الثورة المضادة، المؤامرة، الموت.. ولكنهم لا يختلفون على آثاره التي باتت مدمرة، وبالتالي على ضرورة الهرب منه إن أمكن!
 رغم كل الإلحاح اليومي لم يكن يحتل السؤال في ذهني أكثر من الدقائق التي تكلف الخائفين علي، و نزولاً عند خوفهم وقلقهم ورجائهم، أجيب: لن أسافر إلا حين أستنفد طاقتي على الصمود، دون أن أعرف إن كان هذا جوابي حقاً أم لا!
حين أفكر بأمر البحث عن جواب، أكتشف أني لم أفكر يوماً بالسفر، و ما كان يخطر لي، فثمة أشياء مقصاة عن الذاكرة بفعل الحب أو العادة أو الاكتفاء بالمكان. ولكن اليوم بات السؤال مطروحاً على شاشة الذاكرة، يستفزك كيفما تحركت، وكلما سمعت عن موت هنا أو فقدان صديق في أقبية التعذيب: تتحسس روحك، يحتل الخوف مسامات جسدك، يهتف العقل الباطن: اهرب بالسفر؟ يجزره العقل الظاهر بضحكة لا تنفي الأمر ولا تؤكده. 
تتغلب على الأمر بالبحث عن ذرائع للبقاء هنا، بعيداً عن إيديولوجيات "الصمود والنضال": الكتابة من هنا أفضل وأصدق لأنها تعبق بوجع الناس وآلامهم، ستأتي لحظة مفصلية من تاريخ البلد ويكون هناك دور للعقل والعمل المدني والبناء وعلينا أن نكون مهيأين ومستعدين لها، إيصال دواء لصديق في وقت حرج، تهدئة الخوف في عيني جارتك الستينية عند سماع كل تفجير، شراء باكيت دخان من طفل فقير دون أن تعرف إن كان أحدا يشغله مخبراً بعد تكاثر بسطات بيع الدخان بشكل مخيف ومرعب! رؤية أبناء وأهل المعتقلين وإعانتهم على الصمود وتهدئة خوفهم وشوقهم لأبنائهم الذين لا يعرف إلا الشيطان ما يتعرضون له الآن، احتضان صديقة بعد الاعتقال وترميم جروحها لتعود حية للعالم الميت..
رغم أهمية ما سبق، إلا أنه لم يعطني الإجابة التي أنشد، حتى طرقت بابي طفلتان تأتيان كل أسبوع لتنظيف درج البناية، مقابل مبالغ زهيدة جداً  دولارين في الشهر). سألتني إحداهما: عمّو ما ضل حدا بالبناية، وإنت أحياناً ما بتفتح الباب، إذا رح تسافر منشان ما نجي، لأن هي البناية ما عاد فيها رزق، ما حدا عم يعطينا؟
 بكيت في داخلي، خجلت من نفسي لأني أحياناً لا أفتح الباب فعلاً حين أكون مستغرقاً في الكتابة. وعدت الطفلتين بأن يأتيا كل أسبوع وأنا أشّع ألماً، ففي سوريا التي نحب ثمة طفولة تنتهك ولا تحتاج أكثر من دولارين لتقي شر الحاجة والتسول، أليس في هذا ما يستحق الصمود لأجله؟
الخجل الذي اعتراني أمام أطفال بلادي الفقراء كان كافياً لأفهم سرّ عدم رغبتي بالسفر، أنا مدين لهاتين الطفلتين لأني وجدت الإجابة: لن أسافر لأني أخجل من السفر في الوقت الذي تنسج فيه بلادي حريتها، أخجل من ترك البلد وأنا كنت أحد المحرضين على الثورة ضد النظام في أيامها الأولى والآن، فهل يحق لنا أن نهرب ونترك الناس تواجه الموت والدمار، وحيدة، عزلاء؟ فلنتحمل نتائج ما نادينا به ولنكن مستعدين لدفع الثمن، ولو بالصمود هنا فحسب.
 قبل مشاركتي في أول مظاهرة في الخامس عشر من آذار 2011، كتبت: "كي لا يقال إن الشعراء صمتوا في الأزمنة الصعبة، حرية حرية حرية بدنا حرية". الآن أكتب: كي لا يقال إن الشعراء هربوا في الأزمنة الصعبة، ما زلنا نريد الحرية".
صباح الخير سوريا: صبحك حلو، عاشق أنا، وعشق الوطن ما أجملو.
 
 
increase حجم الخط decrease