الأربعاء 2013/02/20

آخر تحديث: 03:15 (بيروت)

فيتامين "د"

الأربعاء 2013/02/20
increase حجم الخط decrease
أيُّ تغير قد يصيب المرء حين يحقق في سنّ الأربعين نقلةً كبيرةً في حياته فينتقل من العيش في القاهرة، العاصمة الافتراضية للشرق الأوسط الوهمي، بكل ضجيجها وتلوّثها، ومفاتنها الخفية والمعلنة، إلى مدينة ضائعة في أقصى شمال غرب الدنيا، في براري الغرب الأوسط الكندي؟ بعد حيازة بطاقة التأمين الصحي في أرض الرفاه، سيقول لي الطبيب فور إجراء أوّل فحص عمومي، إنني مصاب بداء مهاجري العالم الشرقي، وهو انخفاض نسبة فيتامين "د" في الجسم، وذلك للابتعاد عن المسافة المعتادة من خط الاستواء، وندرة التعرّض للشمس.
سكان هذه المدينة هم تمثيل نسبي وقياسي لتنويعة السكان العالمية، فبقدر نسبة الصينيين من سكان العالم هم ممثَّلون هنا، وبقدر ما هنالك هنود في العالم هنا هنود، وكذلك بيض قوقازيون، وأفارقة سود، وعرب، وروس، ولاتين.. كل الأجناس ممثّلة بأحجامها العالمية..
النهارات بيضاء من الثلوج والغيم المائل إلى الرمادي. أركب الباص مزوّداً بغطاء رأس صوفي وقفّازين وكوفيّة متوجّهاً إلى وسط المدينة بحثاً عن وقت طيّب. بين عدد لا بأس به من الصينيّات العجائز وفلبينيّين شباب ذاهبين إلى أعمالهم "الكريمة". الراكبون من الكنديين البيض أقلية في الباصات، فهم الجزء الأكبر من أصحاب السيارات طبعاً، ومن يوجد منهم في المواصلات العامة هم من الطلبة غالباً..
أصل إلى قلب المدينة. بعد تمشية قصيرة يحدّ البرد القارس من متعتها، أعرّج على أول بار يصادفني: بار هندي! عادةً يرى المرء مطاعم هندية في مثل هذه المدن: محال صغيرة بست أو ثماني طاولات تقدّم الطعام المبهّر بالكاري. ولكن هذا كان مشرباً كبيراً على طراز غربي، وإن احتفظ بهنديته في التفاصيل الزخرفية، وفي عاملاته الفاتنات.
كنت جالساً بمفردي إلى البار ومن خلفه حسناء لا تتجاوز العشرين ربيعاً تقدّم لي الطلبات، خمّنت أنها طالبة. سألتها: ما اسمك؟ قالت: فاطيما. قلت لها: من أين أنت؟ قالت: أبي من كينيا وأمي من أوغندا، لكنّي مولودة هنا. تذكّرت تراث الاستعمار البريطاني، والهنود المزروعين في أفريقيا. قلت لها: تقصدين أنهم هنود من كينيا وأوغندا؟ قالت: بالضبط. قلت لها: أنا مصري، لكني لست هندياً من مصر! ضحكت..
قالت لي: هل أنت مسلم؟  قلت لها نعم لكني لست مسلماً مثالياً.. ولوّحت لها بكوب البيرة. قالت لي ولا أنا، ولوّحت بكأس ويسكي تخفيه تحت حاجز البار تحتسي منه بين الفينة والأخرى. كل العاملات الهنديات كنّ يشربن أثناء العمل. فكّرتُ: بالتأكيد هذا المكان لا يحقق الأرباح المرجوّة منه.
بارمان أبيض حلّ محل فاطيما بينما غابت لدقائق عن موقعها. سألته: أنت الوحيد هنا لست هندياً؟ قال: نعم، كما ترى. قلت له أول مرة أرى باراً هندياً! قال: "هم يعتبرونه مطعماً". قلت إنّ فكرتي عن المطاعم الهندية أنها صغيرة ببضع طاولات ورائحة الكاري تلفّ المكان. قال: نعم، هؤلاء بدأوا هكذا، هناك.. وأشار بيده ناحية الضواحي.. وواصل: ثم اغتنوا وافتتحوا هذا المطعم في قلب المنطقة السياحية..
أجلس على البار أسترجع طقساً قديماً كنت قد نسيته منذ سنوات: تدوين هذا الكلام بالقلم في دفتر، بينما أتابع أصابع فاطيما الرشيقة، بعدما عادت إلى موقعها، تتحرّك كالموسيقى على الأشياء. أقول في بالي تخلّصت إبنة الجيل الثاني من لكنة الأغراب، ولعلها استعادت أيضاً المعدّلات الطبيعية لفيتامين "د" في جسدها..

 
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب