الأحد 2023/02/05

آخر تحديث: 18:38 (بيروت)

التطبيع مع الأسد:أي جدوى.. وسط عجزه عن تقديم مقابل؟

التطبيع مع الأسد:أي جدوى.. وسط عجزه عن تقديم مقابل؟
increase حجم الخط decrease
عادت القضية السورية إلى دائرة الاهتمام الإقليمي والدولي، هذه المرة من بوابة الجدل حول أهداف التطبيع مع النظام السوري وجدواه. وفي حين بذلت بعض الدول العربية محاولات سابقة في هذا الصدد، وأخرى ظلت تحتفظ بعلاقات معه (الجزائر، والعراق، ولبنان) من أجل إعادته إلى جامعة الدول العربية قُبيل قمة الجزائر التي عُقدت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 (إضافة إلى مساهمة أردنية في هذه الجهود)، ينقسم الرأي بين الدول المعنية بالموضوع السوري حاليًا بشأن التطبيع مع دمشق إلى ثلاثة تيارات رئيسة؛ الأول متحمس للتطبيع ويسير بخطى ثابتة نحوه، إما في إطار حسابات نابعة أساسًا من اعتبارات داخلية، وهذا شأن تركيا، التي تقف على أعتاب انتخابات حاسمة هذا الصيف، وإما في إطار رؤية تسعى نحو تطبيع مجاني غرضه طيّ صفحة الثورات العربية نهائيًا، كما في حالة الإمارات، في حين يربط التيار الثاني بوضوح حصول التطبيع بتحقيق تقدّم في مسار الحل السياسي، ويمثّل هذا التيار الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، وعربيًا قطر. أما التيار الثالث فيراقب الوضع في انتظار جلاء الصورة حتى يحدّد موقفه، ومن الدول التي تمثّله السعودية ومصر والأردن.

أولًا: المتحمسون
تُعدّ تركيا والإمارات حاليًا من أبرز المتحمسين للتطبيع مع النظام السوري، وإن كان لكل منهما دوافعه الخاصة.
1. تركيا
بدأت بوادر التغيير في السياسة التركية تجاه الصراع في سورية منذ التدخل العسكري الروسي في سورية في أيلول/ سبتمبر 2015، إذ غدت سياسة تغيير النظام في دمشق التي تبنّتها أنقرة منذ خريف 2011، غير واقعية في حساباتها. ودفع التحالف الذي أنشأته واشنطن مع قوات سوريا الديمقراطية "قسد" للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" إلى تغيير أولويات أنقرة في سورية؛ وأدى ذلك إلى تمهيد الطريق أمام تفاهمات تركية - روسية كان جوهرها تخلّي أنقرة عن سياسة تغيير النظام في دمشق مقابل تعاون موسكو في منع قيام كيان كردي على الحدود التركية - السورية. لكن التغيير في السياسة الخارجية التركية أخذ منحى أكثر شمولًا وعمقًا في السنتين الأخيرتين، بسبب تنامي التوتر في العلاقة مع واشنطن منذ وصول إدارة الرئيس جو بايدن إلى الحكم مطلع عام 2021، وتفاقم الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها تركيا. 
وإضافةً إلى المشاكل الاقتصادية الهيكلية، تأثرت تركيا، مثل كثير من دول العالم، بوباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، وانعكس ذلك في سعر صرف العملة التركية التي خسرت نحو 90 في المئة من قيمتها بين عامي 2016 و2022، فضلًا عن تنامي العجز في الميزان التجاري وارتفاع مستوى التضخم الذي وصل نتيجة تضاعف أسعار الطاقة بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا إلى أكثر من 80 في المئة. وقد دفعت هذه التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية الرئيس رجب طيب أردوغان إلى إجراء تغييرات واسعة في سياسته الخارجية، شملت تحسين العلاقات مع السعودية والإمارات وإسرائيل ومصر وإيران، وغيرها. وعلى الرغم من أن تغير سياسة تركيا تجاه القضية السورية بدا كأنه جزء من مقاربتها الإقليمية الجديدة، فقد كان للعلاقة مع سورية خصوصية إضافية واضحة ممثلة بصراع مرير مع النظام السوري نتج منه وجود نحو 3.7 ملايين لاجئ سوري في تركيا. 
ونتيجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة، صار موضوع اللاجئين السوريين مادة لنقاش ساخن في المجتمع التركي، استغلته المعارضة لتقويض موقف حكومة حزب العدالة والتنمية، فأخذت تثير نعرات عنصرية تجاههم وتحمّلهم مسؤولية الأوضاع الاقتصادية التي تواجهها البلاد، حتى صار موضوعهم مادة رئيسة في حملة الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقررة في أيار/ مايو 2023. وفي المقابل، يحاول حزب العدالة والتنمية، الذي تعرّض لهزيمة انتخابية ثقيلة عام 2019 عندما خسر بلديتَي إسطنبول وأنقرة في الانتخابات المحلية، سحب ورقة اللاجئين من يد المعارضة، مبررًا المشاكل الاقتصادية بعوامل من بينها تحمّل تركيا عبء اللاجئين، ومتعهدًا بإعادة نحو مليون لاجئ سوري إلى بلدهم؛ وهو أمر يحتاج في تنفيذه إلى التعاون مع النظام السوري. ومع إصرار الولايات المتحدة على رفض أيّ عملية عسكرية تركية ضد قسد، برز التعاون مع روسيا والنظام السوري أيضًا باعتباره الخيار الأمثل أمام أنقرة لاحتواء خطر قسد، فعرضت مساعدة النظام السوري على استعادة السيطرة على المناطق التي خسرها لقسد، خاصة في شمال سورية وشمالها الشرقي. وقد سمح هذا التحول بعقد اجتماع بين وزيرَي الدفاع ورؤساء مخابرات تركيا والنظام السوري في موسكو في كانون الأول/ ديسمبر 2022، في حين تُبذل جهود حاليًا لعقد أول لقاء بين وزيرَي خارجية الطرفين. 
2. الإمارات
وجدت الإمارات، مثل دولٍ خليجية أخرى، في ثورة الشعب السوري عام 2011 فرصةً لاحتواء النفوذ الإيراني في المنطقة؛ فانضمت إلى جهود عزل النظام السوري داخل جامعة الدول العربية، وأدّت دورًا في دعم المعارضة السورية. لكن موقف أبوظبي تغيّر جذريًا مع تحوّلها إلى خصم معلن لثورات الشعوب العربية، حيث أخذت تنأى بنفسها عن المعارضة السورية قبل أن تتحول إلى دعم النظام السوري تحت غطاء إنساني، ثم إلى التقارب معه سياسيًا وأمنيًا في إطار تحوّل نظرتها إلى الصراع في سورية، من كونه فرصةً لاحتواء إيران إلى كونه جزءًا من الحرب على الإرهاب. وبناءً عليه، أعادت الإمارات فتح سفاراتها في دمشق في كانون الأول/ ديسمبر 2018. وفي مطلع عام 2020، جرى أول اتصال هاتفي علني بين ولي عهد أبوظبي آنذاك، محمد بن زايد، ورئيس النظام السوري، بشار الأسد، منذ قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 2012. وبحسب وسائل إعلام غربية، اتفق الطرفان خلال الاتصال على استراتيجية لمواجهة تركيا في سورية وليبيا، حيث طلبت الإمارات من النظام السوري إشغال تركيا في إدلب؛ بما يمكّن اللواء المتقاعد خليفة حفتر من الإجهاز على العاصمة الليبية طرابلس. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، أجرى وزير خارجية الإمارات، عبد الله بن زايد، أول زيارة إلى دمشق منذ عشر سنوات. وفي آذار/ مارس 2022، أجرى بشار الأسد أول زيارة عربية له منذ اندلاع الثورة السورية إلى أبوظبي، ليزور بعدها عبد الله بن زايد دمشق في كانون الأول/ ديسمبر 2022.
يمثّل التطبيع الإماراتي مع النظام السوري جزءًا من استراتيجية علنية هدفها طيّ صفحة ثورات الربيع العربي نهائيًا وتثبيت النُظم الحاكمة، وإدماج إسرائيل في النظام الإقليمي العربي بعد أن وقّعت أبوظبي اتفاقية سلام وطبّعت علاقاتها معها في أيلول/ سبتمبر 2020. وهناك أيضًا اهتمام إماراتي بالحصول على فرص اقتصادية في سورية في مرحلة ما بعد الحرب وإعادة الإعمار، كما أنها ترغب على الأرجح في الدخول على خط الوساطة بين تركيا والنظام السوري، وتطمح إلى أداء دور في ذلك عبر عرضها ترتيب لقاء بين الرئيس أردوغان وبشار الأسد، وكذلك الوساطة بين النظام السوري وإسرائيل. وكلها أدوار تنافس فيها روسيا.

ثانيًا: المعارضون
تشمل جبهة الرافضين للتطبيع المجاني مع النظام السوري عدة أطراف دولية، أهمها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وعربية، أبرزها قطر.
1. الولايات المتحدة
وسط جهود بعض حلفاء واشنطن الإقليميين للتطبيع مع النظام السوري، ترفض واشنطن أيّ خطوات في هذا الاتجاه لا تكون مقرونة بتحقيق تقدّم في مسار الحل السياسي القائم على قرارات مجلس الأمن، خاصة القرار رقم 2254. وعقب اللقاء الذي جمع، في موسكو في كانون الأول/ ديسمبر 2022، وزيرَي الدفاع السوري والتركي، أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، "أن بلاده لا تدعم مواقف الدول التي تعزز علاقاتها أو تُعرب عن دعمها لإعادة الاعتبار لبشار الأسد، الدكتاتور الوحشي، وأن الدعم الأميركي لهذا التوجه يظل مرهونًا بحل سياسي بقيادةٍ سوريةٍ وبما يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254".
وتعدّ العقوبات الأميركية المفروضة على النظام السوري أبرز العقبات التي تقف في وجه التطبيع معه، والتي تأخذها الدول المطبّعة في الاعتبار، خاصة منها قانون قيصر لعام 2019، الذي وُضع حيز التنفيذ في 17 حزيران/ يونيو 2020، وينص على معاقبة كل من يقدّم الدعم العسكري والمالي والتقني للنظام السوري، أشخاصًا أو دولًا أو شركات. وفي 23 كانون الأول/ ديسمبر 2022، وقّع الرئيس الأمريكي جو بايدن قانون مكافحة المخدرات الذي يعتبر تجارة المخدرات المرتبطة بنظام الأسد تهديدًا أمنيًا عابرًا، ويدعو إلى وضع استراتيجية مكتوبة خلال 180 يومًا لتعطيل إنتاج المخدرات والاتجار بها وتفكيك الشبكات المرتبطة بنظام الأسد في سورية. 
2. الاتحاد الأوروبي
يستمر الاتحاد الأوروبي في موقفه الرافض للتطبيع مع النظام السوري، في محاولة لدفعه إلى التفاوض الجدّي من أجل التوصل إلى حل سياسي بشأن الأزمة. فقد شدد الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل، أمام البرلمان الأوروبي في بروكسل في عام 2021، على عدم التطبيع مع النظام السوري، وعدم رفع العقوبات عنه إلى حين تحقيق انتقال سياسي يلبّي متطلبات قرارات مجلس الأمن. وقد جدد الاتحاد الأوروبي منتصف عام 2022 العقوبات المفروضة على النظام السوري عامًا آخر بسبب استمرار قمعه السكان المدنيين. وفي مطلع عام 2023، أطلق الاتحاد الأوروبي ثلاث لاءات في وجه جهود تأهيل النظام السوري، وهي لا للتطبيع، ولا لإعادة الإعمار، ولا لرفع العقوبات عن النظام السوري ما لم يمتثل لمتطلبات الحل السياسي. وقد جاء هذا الموقف الأخير على خلفية التقارب التركي مع النظام السوري، في انسجامٍ مع الموقف الأميركي الرافض لأيّ تقارب أو انفتاح معه.
3. قطر
بالنسبة إلى قطر، لا تزال كل أسباب عزل النظام السوري قائمة، بما فيها استمراره في سياساته القمعية ورفض أيّ مقاربة سياسية للحل. وقد عبّر أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في أكثر من مناسبة عن رفضه محاولات "طيّ صفحة مأساة الشعب السوري بلا مقابل وتجاهل تضحياته الكبيرة من دون حل يحقق تطلعاته ووحدة بلاده"، كما أكد أن "جامعة الدول العربية قررت استبعاد سوريا لسبب وجيه، وأن هذا السبب ما زال موجودًا ولم يتغير". وكانت جامعة الدول العربية قد اتخذت، في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، قرارًا بتعليق عضوية النظام السوري فيها، وطالبت بسحب السفراء العرب من دمشق مع إبقاء الطلب "قرارًا سياديًا لكل دولة". وصدر هذا القرار بموافقة 18 دولة، واعتراض 3 دول، هي سورية ولبنان واليمن، وامتناع العراق عن التصويت.

ثالثًا: المتريثون
1. السعودية
تبدي السعودية تحفّظات على توجّهات التطبيع مع النظام السوري، وذلك على الرغم من حصول زيارات ولقاءات بين مسؤولين أمنيين في النظام السوري ونظرائهم في السعودية، كان آخرها، بحسب صحيفة الوطن القريبة من النظام السوري، زيارة رئيس إدارة المخابرات العامة (أمن الدولة) اللواء حسام لوقا، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، إلى السعودية. وقد عرقلت السعودية، إلى جانب مصر وقطر، جهود بعض الدول العربية لإعادة سورية إلى جامعة الدول العربية في قمة الجزائر، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، حيث عللت الرياض وقتها موقفها باستمرار "التدخل الإيراني الذي يحول دون عودة سورية إلى ’المحيط العربي‘"، ووجود "قرارات عربية ودولية، متى تم تنفيذها ستكون المملكة وكل الدول العربية حريصة على عودة سورية والشعب السوري". لكن ظهرت مؤشرات في الآونة الأخيرة تشير إلى احتمال حصول تغييرٍ ما في الموقف السعودي تجاه مسألة التطبيع. ففي مقابلة صحافية مع وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، منتصف كانون الثاني/ يناير 2023، أشار إلى جهود التطبيع مع النظام في دمشق وأكد على الحاجة إلى أن تقوم دول المنطقة بالعمل "معًا لإيجاد حل سياسي للحرب الأهلية المستمرة منذ 12 عامًا"، وأضاف "نحن نعمل مع شركائنا لإيجاد طريقة للتعامل مع الحكومة في دمشق بطريقة تقدّم تحركات ملموسة نحو حل سياسي، وأن ذلك سيتطلب بعض العمل". وجاءت هذه التصريحات بعد اجتماع عُقد بين بن فرحان والمبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سورية، غيرد بيدرسون، على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في 18 كانون الثاني/ يناير 2023. وكان لافتًا أن هذه التصريحات تزامنت مع رفع النظام السوري الحظر عن استيراد المنتجات السعودية، إيذانًا باستئناف العلاقات الاقتصادية مع الرياض المتوقفة منذ عام 2012. والحقيقة أنه لا يوجد تغيير مبدئي في الموقف السعودي، الذي لا يعارض التطبيع مع النظام السوري منذ تسلّم الأمير محمد بن سلمان مقاليد الحكم عمليًا. والتغيرات التي تطرأ تتعلق بالتوقيت وتقدير إسهام التطبيع في الحد من النفوذ الإيراني في سورية.
2. مصر
على الرغم من عقْد اجتماعات متكررة بين مسؤولين في النظام السوري وكل من رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية، عباس كامل، ووزير الخارجية المصري، سامح شكري، الذي التقى في نيويورك في أيلول/ سبتمبر 2021، أول مرة منذ عشر سنوات، وزير الخارجية السوري فيصل المقداد على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن الموقف المصري يبدو، على الأقل في العلن، متسقًا مع الموقف السعودي، لجهة التريث في التطبيع مع النظام السوري، مع عدم معارضته مبدئيًا. ففي بيان مشترك صدر عقب اجتماع لجنة المتابعة والتشاور السياسي بين مصر والسعودية في القاهرة في منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2022، أشار البلدان إلى أنهما يتشاركان في دعم "الحل السياسي في سوريا وفق القرار 2254، ورفض أيّ تهديدات بعمليات عسكرية تمسّ الأراضي السورية، وتروّع الشعب السوري"، في إشارة إلى احتمالات قيام تركيا بشنّ عملية عسكرية شمال سورية. وأشار البيان إلى أن الطرفين اتفقا على "ضرورة دعم الحفاظ على استقلال سوريا ووحدة أراضيها، ومكافحة الإرهاب، وعودة اللاجئين والنازحين، والتوصل لحل سياسي للأزمة القائمة وفقًا لقرار مجلس الأمن رقم 2254، ودعم جهود المبعوث الأممي لدفع العملية السياسية في سوريا". وكانت مصر تتخذ موقفًا مؤيدًا لعودة سورية إلى جامعة الدول العربية في وقت مبكر من عام 2022، إلا أنّ تحولًا طرأ على موقفها لاحقًا في مؤشر إلى ابتعادها عن الموقف الإماراتي، واقترابها أكثر من الموقف السعودي الذي عارض هذه العودة، قبل أن يبدأ في التغير مجددًا في الأسابيع الأخيرة في ضوء استقبال الرياض رئيس المخابرات السورية ورفع علم سورية في شوارع الرياض أثناء القمة العربية - الصينية التي عُقدت في كانون الأول/ ديسمبر 2022. 
3. الأردن
تغيّر موقف الأردن مرّات عديدة منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011؛ فمنذ استضافته غرفة العمليات الدولية المشتركة لدعم فصائل المعارضة السورية "الموك" عام 2012، تحوّل خلال عام 2021 إلى أبرز المدافعين عن التطبيع مع النظام السوري. وقد تمحورت أسبابه في ذلك حول مصالحه الاقتصادية والأمنية ومحاولته إيجاد حل لنحو 700 ألف لاجئ سوري مقيم على أراضيه. وفي تموز/ يوليو 2021، زار الملك عبد الله واشنطن وناقش رؤيته لسياسة خطوة مقابل خطوة للتطبيع مع النظام السوري، الذي قال عنه الملك، إنه "ما زال في السلطة وينبغي أن يتم التعامل معه على هذا الأساس". وقد حصل الملك خلال الزيارة على موافقة واشنطن على مشروع تزويد لبنان بالغاز والكهرباء من مصر وإسرائيل عبر الأردن وسورية، واستثناء الأردن من قانون العقوبات "قيصر" الذي يستهدف أيّ دولة لها معاملات تجارية مع دمشق. وقد أدى استئناف الاتصالات بين عمّان ودمشق إلى اتفاق في أيلول/ سبتمبر 2021 على إعادة فتح معبر جابر - نصيب الحدودي، وفتح الباب أمام مفاوضات تتعلق بالتجارة والطاقة والزراعة خلال زيارات وزراء في الحكومة السورية إلى عمّان، وجاءت بعد المكالمة الهاتفية العلنية الأولى التي أجراها بشار الأسد مع الملك عبد الله في تشرين الأول/ أكتوبر 2021. لكن مسار التطبيع الأردني مع النظام تعثّر مع فشل مقاربة خطوة مقابل خطوة، إذ ازداد بعد الانفتاح الأردني على النظام تهريب المخدرات في اتجاه الأردن، كما تضاعف وجود الميليشيات القريبة من إيران على الحدود. ومع ذلك، فإن الأردن يواصل العمل في الشرق والغرب من أجل تقبّل فكرة التطبيع مع النظام بوصفه أمرًا واقعًا.

رابعًا: موقف النظام السوري
يتعامل النظام السوري مع جهود التطبيع الجارية معه (وهو في أضعف حالاته لناحية قدرته على السيطرة على الأرض وإفلاسه اقتصاديًا) من منطلق المنتصر، ويبدو هذا واضحًا في الشروط التي يضعها للتطبيع مع تركيا، التي تشمل مطالبتها بالتعهد بالانسحاب الكامل من الأراضي السورية، ووقف دعم المعارضة السياسية والعسكرية، والمساعدة في إعادة الإعمار وتخفيف أثر العقوبات الغربية المفروضة عليه. أما عربيًا، فيشترط النظام على الدول العربية التطبيع معه سياسيًا في مقابل فك الحصار عن بعض المناطق التي ما زالت واقعة تحت سيطرة المعارضة ووقف قصف حاضنتها المدنية. فهو يطالب بتنازلات سياسية مقابل "تنازلات" في قضايا إنسانية. ويحاول النظام بهذه الطريقة إخفاء الضعف الشديد الذي يعانيه، خاصة لجهة أوضاعه الاقتصادية، في ظل عجز حلفائه أو عدم رغبتهم في مساعدته. وقد اضطر النظام في الفترة الأخيرة إلى تعطيل المدارس والمصانع والجهات العامة لعدم توافر المحروقات اللازمة لتأمين وسائل المواصلات والتدفئة، في حين تفتقد مناطق عديدة، على نحو كلي أو جزئي، التيار الكهربائي، ما أدى إلى شلل اقتصادي كامل. وتعاني مناطق النظام خصوصًا أوضاعًا معيشية صعبة، متمثلة في ارتفاع أسعار المواد الغذائية على نحو غير مسبوق، وارتفاع التضخم إلى 150 في المئة خلال عام 2022، وذلك تزامنًا مع انهيار سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي، حيث فقدت نحو 35 في المئة من قيمتها خلال الأسابيع القليلة الماضية (وصل سعر صرف الدولار إلى 7000 ليرة سورية أمام الدولار الأميركي في مقابل 4500 مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2022)؛ ما دفع 90 في المئة من السوريين إلى ما دون خط الفقر. ولاحظ تقرير أخير للأمم المتحدة أنّ نصف السوريين (12 مليون شخص) غير واثقين من تأمين وجبتهم اليومية التالية، في حين يواجه 2,5 مليون سوري خطر المجاعة، ما يعني أن نحو 80 في المئة من السوريين باتوا يفتقرون إلى الأمن الغذائي، وبهذا تحتل سورية بحسب التقرير المرتبة السادسة في العالم من حيث الافتقار إلى الأمن الغذائي. وعلى الرغم من أن النظام السوري بات مهدّدًا بثورة جياع مع ظهور بوادر تململ داخل حاضنته من الوضع الذي آلت إليه البلاد، فإنه يستمر في صلفه وعناده الذي يزيده قوةً توجّهُ دولٍ عديدة إلى التطبيع معه من دون شروط. إن توجّه بعض الدول العربية وتركيا إلى التطبيع مع النظام السوري، وهو في أحلك ساعاته وأضعف حالاته، هو من المفارقات التاريخية اللافتة.

خاتمة
تتفاوت المواقف الإقليمية والدولية من التطبيع مع النظام السوري، كما تختلف التقييمات حول جدواه بتوافر شكوك في قدرته على تقديم أيّ مقابل يسمح بفتح ثغرة في جدار الأزمة أو رغبته في ذلك، على الرغم من استمرار تدهور وضعه ووضع حلفائه السياسي والاقتصادي، علمًا أنه بات غير قادر فعليًا على تحمّل عبء توفير الغذاء (فضلًا عن الكهرباء والمحروقات) لنحو 9 ملايين سوري يعيشون تحت سيطرته، وصار يعتمد على نحوٍ شبه كلّي تقريبًا على المساعدات الإنسانية والإغاثية التي تقدّمها الأمم المتحدة والوكالات المرتبطة بها، وكأنه يُلقي مسؤولية إطعامهم على المجتمع الدولي، في حين يستمر هو في الإمساك بسلطةٍ باتت عاجزة عن القيام بأيّ وظيفة من وظائفها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها