الأربعاء 2023/02/22

آخر تحديث: 11:03 (بيروت)

بايدن في كييف..وعينه على تايبيه

الأربعاء 2023/02/22
بايدن في كييف..وعينه على تايبيه
© Getty
increase حجم الخط decrease
في خطوة لافتة مفعمة بالرمزية والدلالات، شاء الرئيس الأميركي جو بايدن "الاحتفال" بالذكرى السنوية الأولى للحرب الروسية على أوكرانيا في كييف، العاصمة التي كانت آيلة إلى السقوط يوم قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استعراض عضلاته العسكرية "العظمى" لإستباحة الجمهورية السوفياتية السابقة، تتويجاً لمسار صعوده الإستبدادي الباهر الذي وثقته رئاسة دونالد ترامب "الممنونة" لتدخل موسكو الفعّال، قبل أن يقلب فلادمير زيلينسكي المشهد في صمود مشهود أهدى بايدن فرصة نادرة عرف كيف يستثمرها ببراعة، وجاء الى كييف نفسها ليحتفي بنتائجها المتعددة التي أكدت "صوابية" استراتيجيته الدولية التي جعلت من الصين الهم الأول لأميركا.
بين كييف المحاصرة في شباط /فبراير 2022، حيث كان بايدن يدعو زيلينسكي الى الفرار، وكييف الصامدة في 2023، حيث يصارع بوتين الغارق في الثلوج الأوكرانية للسيطرة على مدينة باخمونت الصغيرة، وحيث تحوّل زيلينسكي الى رأس حربة "العالم الحر" مسافة تاريخية محققة لا تخفى أهميتها على واشنطن المهجوسة بأهمية المشهدية السياسية، كان على بايدن أن يتصدر المشهد شخصياً ليعلن بنفسه بداية الحقبة الجديدة في النظام العالمي الذي انتقل مركز الثقل فيه من المحيط الأطلسي الى المحيط الهادئ، تماماً كما فعل رئيس وزراء بريطانيا العظمى ونستون تشرشل عندما خاطر بأمنه الشخصي للسفر الى موسكو في 12 آب/ أغسطس 1942، ليلتقي الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، رغم العداء التاريخي بينهما، ليعلن انتقال الصراع الأوروبي من الأفق الاستعماري العالمي الى المصير القاري الضيق في مواجهة ادولف هتلر.
لدى بايدن الكثير مما يستحق الاحتفال. خلال سنة واحدة حققت واشنطن، التي بدت منعزلة وتائهة خلال عهد ترامب، إنجازات صريحة وضمنية لا يستهان بها على مختلف المستويات، وهي إنجازات بينية يمكن البناء عليها. في المباشر، دمرت الحرب على أوكرانيا الهالة الساحرة التي أحاط بوتين نفسه بها منذ مطلع القرن الحالي، تبددت تلك الصورة البراقة للزعيم المنفرد الذي لا يخطئ، كما بدت الجمهورية الروسية ذات الأحلام الإمبراطوية القديمة، وعلى حد التعبير السوفياتي السابق، نمراً من ورق، وتداعى إستثمار موسكو الهائل في اليمين الفاشي في أوروبا وأميركا شمالاً وجنوباً، وهو استثمار لا يؤيد "التفوق الأبيض" بقدر ما يريد إنهاك السياق الديمقراطي، وكشفت خواء الاستبداد كنظام كفؤ.
في المباشر أيضاً، أعادت الحرب دولاً أوروبية الى رشدها بعدما جنحت مجتمعاتها الى الشعبوية اللاهثة وراء الأنموذج الاستبدادي كخلاص مضمون من تبعات العولمة، ولعل في زيارة بايدن التي بدأت من بولندا وانتهت فيها خير دليل على ذلك. حرص بايدن المرشح عام 2019، على الإشارة الى بولندا بالإسم كتجربة "ما بعد سوفياتية" تنزلق نحو الدكتاتورية بعد وصول حزب "القانون والعدالة" الى السلطة وتماثله مع سياسات موسكو الداخلية، خصوصاً ما يتعلق بالحقوق الشخصية وحرية الرأي والإعلام. اليوم يقف بايدن الى جانب رئيس الحزب والحكومة اندريه دودا ليشيد بدوره في الدفاع عن الديمقراطية الكونية. الأهم أن بايدن سيكون في العاصمة البولندية، وارسو، زعيماً فعلياً في اجتماع دول إعلان بوخارست الذي يضم تسعاً من الدول السوفياتية أو حلف وارسو الذي نشأ كرد على الحلف الأطلسي (بلغاريا، استونيا، التشيك، لاتفيا، ليتوانيا، سلوفاكيا، رومانيا، المجر، وبولندا البلد المضيف).  
وفي المباشر أيضاً، عادت الروح الى "الناتو" الذي كاد ترامب أن يدمره، لا بل أصبح الحلف الذي سيبلغ الخامسة والسبعين من العمر السنة المقبلة قبلة لدول اختارت الحياد تاريخياً مثل فنلندا والسويد اللتين طلبتا الإنضمام اليه، ومحط ثقة دول أخرى تريد استنساخه، خصوصاً في آسيا. الأهم أن دول الحلف في أوروبا الغربية قررت وللمرة الأولى منذ عقود رفع موازناتها العسكرية الى حد 2% من الناتج القومي، ما يعني عملياً تطوير إمكاناتها الذاتية المطلوبة والتخفيف من الأعباء المالية واللوجستية الأميركية لحماية الأمن الأوروبي.
داخلياً، منحت الحرب إدارة بايدن فرصة الظهور كقيادة فعّالة قادرة على تسيير النظام الدولي بعيداً عن شعار "أميركا أولاً" الإنعزالي، المغري إعلامياً وغير المجدي عملياً، وتهافت الدعاوى اليمينية التي راهنت على انتصار سريع لبوتين وتماهت مع حملته الدعائية على خلفية الحرب الأخلاقية-الثقافية التي يخوضها المحافظون بعنوان حماية الجيل الجديد من المثلية الجنسية واللادينية والتعددية العرقية التي يريدها الليبراليون، لكن العامل الأبرز الذي حرم اليمين التقليدي من أدوات تأثيره هو استفادة الصناعة العسكرية من الحرب، فالأرقام الهائلة من المساعدات الأميركية تترجم عقوداً مجزية للشركات الكبرى التي عملت بنشاط على تجديد الترسانة التقليدية التي أهملتها الموازنات الحديثة للبنتاغون والتي كانت في حاجة ملحة الى التحديث، كما نشطّت مراكز الأبحاث العسكرية.
من يراجع استراتيجية بايدن التي نشرها في الخريف الماضي، يرى بوضوح أن حرب بوتين على أوكرانيا أكدت مبادئها وسياقاتها، وهذا ما سهّل على بايدن أن يتوجه من كييف، في خطابه الشامل، الى بكين، التي أعلنها الخصم الأول، ليقول لشي جينينغ زعيم الصين أنه إذا أراد التجريب في تايوان ما جربه بوتين في أوكرانيا فسيكون بعد عام من ذلك في تايبيه. المسألة لم تعد في روسيا، العين الآن على الصين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها