الجمعة 2019/06/07

آخر تحديث: 08:53 (بيروت)

السودان: اكسروا البنات.. فينكسر الرجال؟

الجمعة 2019/06/07
السودان: اكسروا البنات.. فينكسر الرجال؟
AFP ©
increase حجم الخط decrease

في ذكرى قمع احتجاجات تيان آن مين الصينية في 1989- وهي جمعت التظاهر والاعتصام إلى الاضراب عن الطعام واستمالت تعاطف سكان بكين والمدن الأخرى وشرائح واسعة من الجيش الشعبي الصيني والقيادات السياسية - تكرّ سبحة القتل في الخرطوم في عملية قمع المجلس العسكري الانتقالي، للمحتجين والمعتصمين أمام مقره. وأوجه الشبه بين حركة تيان آن مين والاعتصام السوداني كثيرة. ففيه يشارك سودانيون جاؤوا من مناطق مختلفة ومنهم الصغير والكبير، رجال ونساء وأطفال، وأيدت فرق في الجيش المتظاهرين المعتصمين، وشاركت شرائح المجتمع السوداني في حضن الحراك الديموقراطي.

قطع الانترنت وتقييد الصحافة
على رغم قطع الانترنت عن السودان وتقييد حركة الصحافيين الأجانب وإحالة بعضهم إلى ما يشبه إقامة جبرية في الفنادق، نشر ناشطون على وسائل التواصل الاجتماعي، على تويتر تحديداً، تسجيلات تظهر الجرحى والقتلى، واحتفال "الجنجويد" بقتل محتجين، وإعلان موظفي المطار اضراباً عاماً. وروت مغردة سودانية اسمها ولاء تعرّف نفسها على انها "فنانة وأحياناً خبيرة أشعة"، ما يجري وكتبت قائلة:" إنهم يقتلون الناس عشوائياً، يعتقلون من يسير في الطريق، ويغتصبون أعداداً كبيرة من النساء، ويسرقون كل ما يقع تحت أيديهم".


أوامر "كسر البنات"
وقبل الانقضاض الاخير على المعتصمين، سبق أن نقل موقع "سي أن أن" خبر لجوء السلطات السودانية إلى الاغتصاب في سعيها الى احتواء مشكلة غير مسبوقة: أعداد السودانيات في التظاهرات والاحتجاجات تفوق أعداد الذكور. ويرجح مراقبون أن نسبة الاناث من المتظاهرين بلغت حوالى 70 في المئة أو أكثر. وكان لسان حال قياديين الى الجنود والضباط هو "اكسروا البنات، لأن كسرهن يكسر الرجال". وإلى الاغتصاب، لجأت الحكومة خلال الأشهر الاولى من الانتفاضة الى الاعتقال والابتزاز الجنسي لثني النساء عن المشاركة، ومن هذه الاعمال توقيف النساء على الحواجز في العاصمة الخرطوم، وأخذهن الى مواقع اعتقال سرية حيث تلتقط صورهن وهن عاريات ويُهددن بالاغتصاب. ولكن الإناث لم يتراجعن على رغم ما نجم عن هذه الاعتداءات. فثمة أزواج رموا الطلاق على زوجاتهن مخافة العار، وضرب كثيرون من الآباء بناتهن لإجبارهن على البقاء في المنزل. وتعرضت الإناث للضرب والاعتقال في موقع الاعتصام. ولكنهن صمدن وثابرن. وفسرت وفاق قريشي، إحدى المتظاهرات، لقناة "سي أن أن" ما وراء مشاركة النساء الكبيرة، قائلة: "نحن مقبورين في البيت في الشارع في الجامعة في الشغل في المواصلات... ودا (هذا) ما خلّا (دفع) البنات يتحركون اتجاه الشارع".


مجتمع جديد؟
ومضى أكثر من شهرين على التظاهرات السودانية التي أدى فيها الأطباء وغيرهم من الكوادر المهنية من قضاة ومحامين واساتذة جامعيين، وطلاب، وعاملين في شركات الكهرباء والطيران والتأمين والكيمياء، دوراً محورياً في تنظيم "الجلسة" الضخمة أمام مقر الجيش في العاصمة الخرطوم. وينبّه مراسل نيويورك تايمز الأميركية، ألان يوهاس، إلى ان الأطباء ساهموا في بروز حركة احتجاج متماسكة تدعو إلى حكم مدني من رحم احتجاجات على أسعار الخبز. ووثَّق الأطباء السودانيون الإصابات القاتلة في صفوف المحتجين، وأنشأوا عيادات لمعالجة ضحايا الطلقات النارية وعلاج آثار قنابل الغاز. ومع صمود المحتجين، ذاع صيتهم في العالم، وانتشرت صورة الناشطة ألاء صالح وهي تلقي خطاباً امام جمع من المتظاهرين، وانتشرت قصص عن شجاعة المتظاهرين وقصص الحب بينهم. وبدا الحراك في بعض صوره أقرب الى مهرجان صيفي في مجتمع السودان المحافظ. وكان لتباين الهوة بين الأجيال أثره في أعلى مراتب القوة: فأولاد أكثر الجنرالات نفوذاً دعوا آباءهم إلى المساهمة في إطاحة عمر البشير. وهذا ما فعله الجيش في 11 نيسان (أبريل) المنصرم.


تظاهرة مضادة
وسبقت عملية الانقضاض على المحتجين تظاهرة مضادة نظمت في جوار الاعتصام، ورفع المشاركون فيها شعارات نقيضة مثل "عسكرية" و"إسلامية" في مواجهة "السلمية" و"المدنية" التي ينادي بها المحتجون منذ نيسان (أبريل) الماضي. وفي تقرير عنوانه "عسكرية! سلمية! خطر يهدد الحركة الديموقراطية في السودان"، تناول مراسل صحيفة لوموند الفرنسية، جان- فيليب ريمي، هذه التظاهرة النقيضة، وقدّر أعداد المشاركين فيها بآلاف رفعوا شعارات تطالب بحل عسكري وبالإحتكام إلى الشريعة الاسلامية. وهؤلاء المتظاهرون قدم معظمهم من الأرياف من قرى نائية غير معروفة، وجاؤوا على متن مئات الباصات والمركبات. وغلب عليهم شبان بدا عليهم الضياع في المدينة الكبيرة، على خلاف الأكبر سناً من زملائهم المشاركين في التظاهرة "العسكرية"، الذين بدوا وكأنهم يضمرون شيئاً من الغضب والتحدي. والقادمون من الأرياف البعيدة جاؤوا ليعلنوا دعم إحكام العسكر قبضتهم وتأييدهم تطبيق صارم للشريعة وقالوا أنهم يلبون نداء الداعية عبد الحي يوسف "لنصرة الاسلام وجبه الشيوعيين". وهم مقحمون على الحراك، ولا يبالون بحلقات النقاش الدائرة فيه ليلاً ونهاراً حول هذه المسائل في الاعتصام، وهو أشبه بمختبر الديموقراطية السودانية وضع رحاله أمام مقر قيادة الجيش.


فض الاعتصام
راح عشرات القتلى ضحية عملية فض الاعتصام، وترى نسرين مالك المعلقة في صحيفة غارديان البريطانية أن الثورة السودانية تتعامل اليوم مع نواة الحكم الذي أرساه البشير: عشرات الشبكات من أصحاب المصالح الكبيرة، والميليشيات التي تضخمت إلى حد صار تفكيكها متعذراً- مثلما قيل في 2008 إبان الأزمة المالية العالمية أن ثمة مصارف أكبر من أن تُفلس- وصفقات قذرة مع حلفاء إقليميين يتعذر التخلي أو النأي عنهم. فنظام البشير لم يجعل السودان فقيراً ولم يصفِ الأقليات من الأقوام المهمشة فحسب، بل أنشأ جهازاً أمنياً موازياً خارج الجيش. وأعضاء الجهاز هذا هم عصابة احترفت حرق القرى لها ثقافتها الخاصة واقتصادها الخاص وتُصلي نخب الخرطوم النقمة، وهي تتمتع بسياسة خارجية خاصة بها وتمويل مستقل. وبدا أن هذا الجهاز المنظم كان يتحين الفرص ليلقن سكان الخرطوم المرفهين- فهم لم يعرفوا الحرب في العقدين السابقين - درساً يُعلمهم بأنه يمسك بمقاليد البلاد فعلاً. وتخلص نسرين مالك إلى أن الثورة السودانية هي اليوم في مواجهة مع 4 حكومات،  السعودية والإمارات ومصر، وحكومة البلاد.  


فتحت "قوات الدعم السريع"، وهي جيش غير نظامي أُنشئ من فلول ميليشيا الجنجويد السيئة الذكر، النار على المعتصمين، وحرقت الخيم، وضربت كل من لم تقتله، وقطعت الطرق أمام الناس والفرق الطبية والمستشفيات للحؤول دون علاج الجرحى وانقاذ من هم في النزع الأخير. وراجت تقارير عن عمليات اغتصاب وسرقة وجثث تطفو على سطح مياه النيل. والثورة السودانية اليوم لا سند لها في هذه المواجهة. فالمجتمع الدولي لا يكترث بآلام السودانيين، وهو يدين العنف فحسب. والسودانيون في قبضة الموت اليوم مع حكومة أسقطت عنها قناع التفاوض والمساومة، وظهر وجه نظام البشير الحقيقي. فحروب السودان حطت الرحال أخيراً في عاصمته.


ويروي جان – فيليب ريمي في مقالة عن القمع الدموي للحراك الديموقراطي في صحيفة لوموند، أن ثمة من قضوا حرقاً وهم نيام في خيم الاعتصام، وأن طلقات نارية استهدفت الشبان المولجين بحماية الاعتصام وهم عُزل. ومنذ بدء الاحتجاجات، حرص منظموها على تجنب الانزلاق إلى فخ العنف. ولكن الامور خرجت عن طوعهم. ففي بعض الشوارع، اضطرت وحدات الجيش النظامي الى الوقوف موقف المتفرج أمام العنف، بعد أن نُزع سلاحها للحؤول دون انحيازها الى المتظاهرين. وكان الجنود وضباط من رتب وسيطة دافعوا عن المتظاهرين حين نجح هؤلاء في بلوغ باحة مقر القيادة القوى المسلحة في السادس من نيسان (أبريل).


ما بعد القمع الدموي
الأيام المقبلة ستظهر ما إذا كان المجلس العسكري الانتقالي نجح في فرض سلطته على فرق الجيش النظامي كلها وعلى ميليشيات أجهزة الاستخبارات وغيرها من الفصائل المقربة من حزب عمر البشير، حزب المؤتمر الوطني. وإذا أفلح في ذلك، عاد النظام إلى سابق عهده مع تغيير من هو على رأس الهرم فحسب.


ولكن نفض الغبار عن النظام السابق قد يتعثر جراء التنافس الداخلي بين القوى التي تحمل السلاح (ومنها أطراف في الجيش النظامي)، ورغبة الحراك المدني في المضي قدماً في الثورة السلمية على رغم ما ستحمله الأيام من عنف ودم. وبعض أئمة الجوامع يدعون إلى العصيان المدني.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها