الأحد 2019/05/19

آخر تحديث: 20:49 (بيروت)

معضلة جماعة الإخوان السوريين (١)

الأحد 2019/05/19
معضلة جماعة الإخوان السوريين (١)
Getty ©
increase حجم الخط decrease

في الأول من أيار الحالي، أصدرت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا بياناً بخصوص الأخبار المتواترة حول نية الإدارة الأميركية تصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية. أكدوا في ذلك البيان على وسطية فكرهم واعتدالهم، وعلى أنهم طالما عانوا هم أنفسهم من الإرهاب الذي ينبذونه ويؤكدون على مواجهته واجتثاث مسبباته، وكذلك على معاناة سوريا من إرهاب نظام الأسد والإيرانيين والروس والجماعات المتطرفة مثل داعش وغيرها. وفي الختام تنبأوا بفشل المحاولة الحالية لتصنيف الجماعة، وأكدوا على  وجوب استبدال هذه الإجراءات بالحوار والتفاهم.

وبدايةً، لا بدّ من تسجيل استنكار واستغراب أن يصدر مثل هذا القرار، لو صدر! وهو ما يستدعي مباشرة من ذاكرتنا السورية القانون رقم 49، الذي أصدره الأسد الأب في ربيع عام 1980، والقاضي بإعدام كلّ من يثبت انتماءه لجماعة الإخوان المسلمين. آنذاك، كان ذلك القانون نذيراً بالإعدام على الرأي، وبالأهوال اللاحقة التي عرفتها سورية خلال العامين التاليين بعد صدوره، اللذين شهدا مقتل أضعاف أعداد كل تنظيم الإخوان، الذين فرّ معظمهم خارج البلاد أساساً.

أللهم لا اعتراض، إلا على تأكيدهم على مواجهة الإرهاب، و"اجتثاث مسبباته". هنا قد يختلف كثيرون، ويحتجون بأن الإخوان المسلمين أنفسهم بطروحاتهم وممارساتهم من مسببات الإرهاب، على الأقل. وذلك حديث آخر، أودّ هنا ألا أعالجه مباشرة، بمقدار ما أحاول تفهّم ممارساتهم التي لا أعرف كلمة أخفّ من المراوغة والعمل بغير القول، لوصفها، وإن كانت هنالك كلمات كثيرة يمكن أن تفي بالغرض، ليس هنا مجالها.

كانت الخبرة الأولى في أواخر السبعينات من القرن الماضي، حيث واجهنا شرائح وأنواعاً ثلاثة من "الإخوان": أولاها المنظمة الأم بقيادتها ومراقبها العام وانضباطها وارتباطاتها. وكانت "وسطاً" بالفعل، أسيرة لخلافات تنظيمي دمشق وحلب المختلفين بالعقلية والتاريخ، وتعتمد السياسات الأقرب إلى الحائط وأمانه. ولكن هذه النواة الرسمية كانت تتعرض منذ سنوات للنهش من قبل عصبة شابة متشددة وميالة للعنف، أصبح اسمها يومئذٍ "الطليعة المقاتلة": كانت ابنة للإخوان بينهما وشائج وحوارات وخلافات، وزاد التقارب بعد القانون 49 وبعد بدء النظام بالضرب خبط عشواء بالجميع. البؤرة الثالثة كانت في النقابات المهنية، التي كانت الأكثر حداثة وتقبلاً لمفاهيم المواطنة وسيادة القانون، وقد تشاركت مع قوى "التجمع الوطني الديموقراطي" في انتفاضة سلمية رائعة خلال عام على الأقل، انتهت باعتقالات واسعة للتجمع وللنقابات المهنية، مع حل الأخيرة وإلغاء قوانينها المنظمة ثم استبدالها بأخرى على النمط الشمولي، السوفييتي أو الكوري أو ما شئت.. ولم يقبل الإخوان بالحوار مع المعارضة المختلفة عنهم إلا بعد تشردهم في الأرض، واستقرارهم خصوصاً في بغداد. آنذاك، بعد مجزرة حماة، واستمرار رفض استخدام السلاح من قبل من بقي في الداخل من المعارضة. قامت الجماعة بالحوار- تمركز في بغداد صدام - مع بعض الشخصيات المعارضة في الخارج متوازياً مع وجود مكتب عسكري لديهم، ومعسكرات تدريب لمئات من المقاتلين الجاهزين للقتال أو الجهاد. اقتضى اجتثاث الطليعة المقاتلة سفك دماء الآلاف ممن أصبحوا بعد ذلك بكثير يُسمّون بالحاضنة الشعبية لهم، ومعناها هو طائفتهم بالذات، المصلون والمتدينون منها خصوصاً.

لم يقرّ الإخوان رسمياً بأية علاقة مع الطليعة المقاتلة، ولا بأية مسؤولية عما جرى خصوصاً في حماة ومجزرتها الكبرى، وضاعت الناس في الحدود الغائمة بين الصحيح والخاطئ. كانوا يريدون مجد العنف والجهاد من جهة، ومجد السلم والحوار من جهة أخرى، مع تقديم كل الإيديولوجيا اللازمة للجهاد خصوصاً.

في العقدين التاليين، عاشت الجماعة أغلب وقتها بانتظار نوبات الرضا والتفاوض مع النظام، ولم يكونوا يطلبون من جانبهم شيئاً يخص البلاد عموماً، مع إقرارنا بتركيزهم على الإفراج عن المعتقلين. وكانت نوبات الحوار السري تلك بتوسط من إخوان الأردن وحضور ضباط أمن كبار، حلّ مكانهم في التسعينات مدير إدارة الأمن العسكري اللواء على دوبا شخصياً، الذي كان يصرّ ساخراً على شرط المسامحة الخاص بتبرئة النظام من جريمة مجزرة حماة. بعد ذلك صارت محاولة أبعد حين جاء المراقب العام السابق عبد الفتاح أبو غدة إلى سوريا وعاد بخفيّ حنين، ثم جاء القيادي الشيخ محمد أمين يكن، الذي قيل إنه لم يكن عضواً في صفوف الجماعة وهو مجرّد وسيط بينها وبين النظام.


مع ربيع دمشق الذي ابتدأ بعد وفاة الأسد الكبير، عادت الجماعة للتجاوب مع متطلبات المعارضة ووحدتها، وكان "ميثاق الشرف الوطني" الذي أصدرت مشروعه في لندن عام 2001، ثم أعلنته نهائياً مع توقيع عدد محدود من الشخصيات السورية في مؤتمر في سبتمبر 2002. تم "تفسير" ذلك الميثاق في "المشروع السياسي لسورية المستقبل" في كانون الأول عام 2004. وقد وصفوا ذلك المشروع بأنه "يدعو إلى قيام دولة ذات مرجعية تنبثق من هوية الأمة العربية الإسلامية وثوابتها". فهم المعارضون الآخرون من المشروع السياسي  أنه إعادة إقحام إيديولوجية للميثاق في المشروع الإسلامي- الأصل.

بعد ذلك، شاركت الجماعة جانبياً وسراً بتأسيس التحالف الكبير الذي حمل اسم "إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي" في خريف 2005، ثم قامت بتأييده وإعلان الالتزام به علناً في وقت لاحق. وكانت تلك أكبر وأعمق خطوة في ما يخصهم ومشاركتهم الآخرين، وفي ما يخص سوريا وتاريخها الحديث أيضاً. ولكن شهر العسل ذاك لم يطل، إذ فاجأت الجماعة في عام 2006 شركاءها بتأسيس تحالف جديد مع نائب الأسد المنشق عبد الحليم خدام، من دون أي تنسيق ولا توافق مع أطراف المعارضة الأخرى، التي كانت تتحفظ بقوة على خدام، رغم تسامح بعضهم ضمناً، واعتقاده أن تلك الخطوة قد تضيف ثقلاً إلى جهود المعارضين للأسد وتساعد على تعجيل التغيير السياسي. رغم ذلك، كانت تلك الخطوة ضربة جديدة لمصداقية الجماعة وإخلاصها في ما تقول وتعمل.

ولكن الضربة الأكبر كانت في ما تلا ذلك التاريخ، حين قامت الجماعة في أوائل عام 2009 بتجميد معارضتها للنظام، من أجل ما كان يحدث في غزة من اجتياح إسرائيلي ومحاولة لاقتلاع حركة "حماس" وإنهاء وجودها، كما عبر أحد قادة الاخوان. ولم يُخفِ مراقبون آخرون أن تلك الخطوة كانت" حتى تسمع الجارة" في النظام السوري، وتستحسن وتهلّل وتبدي الرضا والقبول.

كان ذلك في المرحلة التي سبقت مباشرة انطلاقة ثورة السوريين في آذار 2011، حيث تروّى الإخوان قليلاً، ثم حسموا الأمر وألغوا تجميد معارضتهم عملياً.

ما بين اتجاه التلاؤم مع "الطليعة المقاتلة" واعتماد نضال النقابات المهنية في نهاية السبعينات، ثم ما بين لعق الجراح والمفاوضات مع النظام في العقدين التاليين، وما بين الاندماج في أجواء ربيع دمشق ثم تجميد المعارضة من أجل غزة، احتار المعارضون الديموقراطيون بين نفورهم من ذلك التردد بين التطرف والمهادنة، ورغبتهم الكبيرة في توسيع دائرة التحالفات ضد النظام، التي كان للجماعة فيها أن تسدّ ثغرة من الضروري سدّها.

كان ذلك التردد والمراوحة شبيهاً بما هو عند النظام نفسه، بين ميله الطبيعي للعنف والتسلّط، ومحاولته إغواء المعارضة بإجراءات متفرقة ومعزولة، كما حدث أيام ربيع دمشق.. واحتارت المعارضة الديموقراطية يومها بالحيرة نفسها التي داخلتها مع الجماعة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها