الخميس 2019/05/16

آخر تحديث: 16:15 (بيروت)

هل تُفكِّك الثورة السودانية طلاسم الإسلام السياسي؟!

الخميس 2019/05/16
هل تُفكِّك الثورة السودانية طلاسم الإسلام السياسي؟!
Getty ©
increase حجم الخط decrease
أواخر الشهر الماضي، أصيب عدد من أعضاء المؤتمر الشعبي الإسلامي- حزب حسن الترابي- بجراح نتيجة هجوم شنه متظاهرون على اجتماع هيئة شورى الحزب. قامت قوات الدعم السريع بإنقاذ المجتمعين، واعتقلت عدداً من المهاجمين- كما اعتقلت معهم مؤقتاً- عدداً كبيراً ممن كانوا يحضرون الاجتماع. استنكرت قوى الحرية والتغيير الهجوم، وقال أحد قادتها إن حادثة الاعتداء على اجتماع المؤتمر الشعبي "حادثة فردية ومعزولة"، وأولئك "الذين يحاولون دفع الثورة السودانية للعنف هم من يريدون هزيمتها".

في انتفاضة السودانيين واعتصاماتهم٬ تتكرر شعارات معادية "للكيزان" وغاضبة منهم، وهو لقب لأعضاء الحركة الإسلامية في السودان كان الإمام البنا قد أطلقه على الإخوان المسلمين، والذين تعتبر قوى الحرية والتغيير في حكم البشير نظاماً لهم، يفرضون من خلاله نهجهم و"دولتهم" بالتسلط والعنف.

هنالك من أسباب انعدام الثقة الشيء الكثير بالطبع. وأول ذلك كون نظام البشير بأكمله من صنع الإخوان المسلمين، في تأسيسه ومساره، وغالباً في نهايته أيضاً. ويمكن تلمس ذلك بشفافية صادمة في كلام الترابي نفسه عن تفاصيل هندسة انقلاب 1989، في مقابلاته ضمن برنامج "شاهد على العصر" في عام 2002 على قناة الجزيرة.

تكلم الترابي بالتفصيل، كيف كان الهدف إقامة "الدولة الإسلامية" وكيف أن الانقلاب كان مقرراً وجاهزا للتنفيذ بعد "التمكين" في الجيش خصوصاً، حتى تم اختيار البشير لقيادة التحرك بصفته عضواً ملتزماً بالتنظيم وأكبر العسكريين رتبة، وكيف استدعي إلى الخرطوم وأُبلغ قرارَ الانقلاب وكل تفاصيله من دون أي علمٍ مسبق له، بحيث أنه قام بتنفيذ الأوامر وحسب. وحتى لاحقاً، كان هنالك مكتب تنفيذي مؤلف من ستة عشر عضواً لقيادة الدولة واتخاذ كل القرارات الأساسية، أربعة مدنيين من قياديي الإخوان، وأربعة عسكريين منهم غالباً، وأربعة يتغيرون مع تغير موضوع البحث.

كان البشير مجرد واجهة، تمدد بعدها بالتدريج حتى تمكّن. أكثر تلك المعلومات إثارة، هو الطلب المسبق من البشير أن يعتقل "أميره" الترابي مع غيره من القيادات السياسية السودانية، للتمويه والتعمية والإمعان في إخفاء هوية الحكم الجديد وخداع العالم الخارجي والداخلي معاً.

تلك درجة مشهودة في المناورة تكاد لا تُصدق لولا ورودها على لسان صاحبها، وبكلماته، وصراحته التي ينبغي تقديره لأجلها. ولكن الأكثر أهمية، هو ما تعنيه من احتمالات باطنية ومن النمط الذي عرفته دهاليز السلاطين المماليك، من حيث الخداع والتآمر والمناورة. ربما كان أهم ما يعنيه ذلك هو الصعوبة الفائقة في الثقة بعد ذلك بحزب من ذلك الطراز، والعمل المشترك معه، من دون طرائق جديدة لا تكون قمعية ولا إقصائية بالطبع، ولكنها أيضاً ليست ساذجة ولا مقبلة من دون حساب ولا تدبّر. والمقصود هنا هو حزب المؤتمر الشعبي، الذي يُحسب على المعارضة بشكل عام، بعد أن انشق قديماً عن المؤتمر الوطني عندما اختلف الترابي والبشير. وتراوحت العلاقة بينهما بعد ذلك بين القمع والسجون أو التعاون والاشتراك في الحكومة كما كان الأمر حتى الماضي القريب.

ورغم أزمة الثقة هذه، التي ينبغي للمؤتمر الشعبي أن يعيها ويحسب لها حساباً، أعلن أمينه العام علي الحاج في السادس من نيسان/ أبريل الماضي، أنهم ليسوا مع "تقعد بس" أو "تسقط بس" بل هم مع "تُصلِح بس".. وكان يشير بذلك إلى شعار الثورة الحركي الرائع "تسقط..بس"، ويعني أن الإسلاميين لا يستهدفون النظام السابق بذاته، بل يرغبون بإصلاحه وحسب، إصلاحاً وليس ثورة! اللافت أن الحاج نفسه قد شدد باعتزاز في موقع آخر على أن الثورة التي أطاحت بنظام البشير ونظامه "ستظل ملكا لأهل السودان جميعا" ربما يكون هذا "الازدواج" الذي يتميّز به الإسلاميون نهجاً مجدياً مدخلاً لفهم موقفهم، ومن ثم للتعامل معه بشكل عملي.

عملياً، بالمناسبة قال الحاج أيضاً في أواخر الشهر عينه، إن "أي اتفاق نحن لسنا طرفا فيه غير ملزمين به وهذه قاعدة.. وأي اتفاق دون كل القوى السياسية لن نرضى عنه وهذا موقف مبدئي". كان ذلك في معرض التعليق على الاتفاق المبدئي بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير. ورغم ما يبديه المؤتمر الشعبي من انتقاد للمجلس العسكري- كما ظهر مثلاِ يوم الهجوم على مؤتمر مجلس الشورى للحزب-، فإن ميله واضح في تردده أو مناورته، وهو يضغط على المجلس العسكري حتى يباشر دوره المهيمن ويفرض المسار بالقوة. بل إن "الشعبي" يزاود على طلب المجلس العسكري بأن تكون الفترة الانتقالية لعامين، ويطلب اقتصارها على عام واحد، رغم مطالبة قوى الحرية والتغيير بأن تكون لأربع سنوات كاملة. فما الذي يعنيه ذلك غير احتمال اعتماد الإسلاميين على قوتهم الكامنة في الجيش، كناخب ذي دور رئيس في أي خيارات أو انتخابات مقبلة، يهدد المجلس العسكري بأن يفرضها خلال أشهر، ويطالب الشعبي بها؟!


بالمناسبة، أيضاً وأيضاً، كان أحد قياديي المؤتمر الشعبي- ابراهيم الكناني- قد أعلن في نوبة غيظ من مناورات البشير مع حلفائه في العام الماضي أن "تجربة الإسلاميين في الحكم كانت فاشلة". ويعني هذا استنتاجاً وحيداً من كل ما سبق أعلاه: يمكنهم أن يقولوا أي شيء، ويفعلون غيره. ذروة تلك "الباطنية" وردت كما يبدو في مسرحية اعتقال الترابي مع الآخرين يوم انقلاب رجله المطيع البشير- الذي خانه لاحقاً- لتغطية تنظيمهم للانقلاب وحتى يحكموا من خلاله في ما بعد.

ومع كل ما سبق الإشارة إليه٬ تبقى مشكلة "صغيرة" تتمثل في توضيح الحدود ما بين المؤتمر الوطني: حزب سلطة البشير، والمؤتمر الشعبي الذي يضع نفسه في صفّ المعارضة. فهل سيستوعب الأخير أعضاء الحزب الآفل وسياساته بعد تجميلها، ويُعرّض مستقبل البلاد لاحتمال استمرار أشباح البشير وصحبه؟! وهل سيتمكن المؤتمر الشعبي من إقناع الناس بقطعه مع "الفلول"، مع كلّ ما يرد من أخبار وتصريحات وسياسات وسلوكات؟! ومع "سياسة التمكين" التي مورست طويلاً من قبل الإخوان، وخلقت دولة ضمن الدولة، أو دولة عميقة واسعة وعميقة، تزداد ضرورة الوقوف والمتابعة والتنبه لما يمكن أن يواجه الثورة من مناورات ومؤامرات وخدع "سينمائية" أيضاً.

هذا يضع قوى الحرية والتغيير بالفعل في دائرة خيارات ضيقة، إن استسلموا للنوايا والمبادئ الطيبة وأسس الحداثة والرأي وحق التنظيم وغير ذلك من أبواب إبقاء الحوار والتفاعل مفتوحاً مع الإخوان، أو استسلموا لمفاعيل التجارب السيئة والغضب المشروع فأقصوا واستبعدوا وتشددوا ثم تطرفوا تحت إغراء التطهّر!

لقد قال الحاج إن على المجلس العسكري أن "ينضبط" ولا يرضخ للضغوط التي تمارس عليه لتغيير مسؤوليه، وأردف "نحن أيضا يمكننا أن نضغط.. ويمكن أن نعتصم". ذلك بدلاً من ممارسة النقد الذاتي الفعال، والمراجعة العميقة بالاستفادة من تجارب إسلاميين آخرين أكثر مرونة وقابلية للتحديث والمعاصرة٬ كما في تونس مثلاً.

هي لعبة شدّ وإرخاء، مناورة وحوار.. وليس سهلاً على قوى الحرية والتغيير أن تتعرض للخديعة من جديد، كما أنه ليس سهلاً عليها أن تمارس الإقصاء والاجتثاث. ولعلّ القوى الإسلامية تجنح للسلم والصلح، وتقوم بمراجعة جذرية كان قد بدأها الترابي ربما٬ بتلك الشفافية التي ظهر بها يومَ قدّم للجمهور سيناريو مسرحية انقلاب 1989. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها